ذواتنا الضائعة

منصة 2021/10/20
...

 ميادة سفر
 
تتشتت حياتنا، وتضيع ذواتنا ما بين الواقع الحقيقي وذاك الافتراضي، تأخذنا شبكات التواصل الاجتماعي لدرجة بتنا لا ندرك ما تفعل بنا، وكيف تدير حياتنا الاجتماعية والنفسية، أصبح أي عطل أو بطء من شأنه أنْ يربكنا، يشتت انتباهنا، يوتر علاقتنا مع المحيط الحي، هذا ما حدث فعلاً منذ أيام عندما توقفت بعض منصات التواصل الاجتماعي عن العمل لساعات، أحسها البعض منا وكأنها دهر، وكأنه خارج العالم.
يبدو أننا وصلنا إلى وقت ينتقل فيه معظم البشر من الحياة الواقعيَّة إلى تلك الافتراضيَّة، لا سيما أولئك الذين يستخدمون الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير، إذ إننا مع هذه الثورة الهائلة في التكنولوجيا والأجهزة الذكيَّة التي لا تفارق أيدينا، لم نعد ننفصل عن هذا العالم إلا وقت النوم، بتنا نسكن فيه ويسكن فينا.
كل شيء تغير من حولنا من دون أنْ نشعر، حياتنا، مفاهيمنا، مفهوم الإنسان، الزمان والمكان، التربية، المجتمع، ومفهوم الصداقة، تلك الأمور شغلت الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع ممن حاولوا الكشف عما حدث وما يمكن أنْ يحدث في المستقبل، وما زال السؤال مطروحاً وملحاً حول: ماهية هذا العالم الافتراضي الذي غزا حياتنا؟ أين هو من الواقع؟ أم بات واقعاً مفروضاً معاشاً ولم يعد افتراضياً؟!
يتقاطع العالم الافتراضي مع العالم الواقعي الذي عده عالم الاجتماع إيرفينغ غوفمان «كخشبة مسرح وكل الرجال والنساء مجرد ممثلين» وبرأي غوفمان «إننا نعرض سلسة من الأقنعة أمام الآخرين ونلعب أدواراً وننظم كيفية ظهورنا، مهمومين دائماً بالانطباع الذي نعكسه للناس عن أنفسنا، ونحاول باستمرار أنْ نضع أنفسنا في دائرة الضوء الأفضل».
من الواضح أن منصات التواصل الاجتماعي فيها الكثير مما أشار إليه غوفمان، فعلى الرغم من محاولتها التحقق من هوية وشخصية المستخدم وجعل هذا المكان أقرب للواقع، إلا أنّ التواجد خلف شاشة الكمبيوتر أو الموبايل من شأنه أنْ يخفي الكثير من شخصيتنا، مشاعرنا وملامحنا وَردود أفعالنا إنْ أردنا ذلك، فضلاً عن اختباء عددٍ لا بأس به من المستخدمين خلف أسماء مزيفة وصور مستعارة لا تعكس حقيقتهم أبداً، أليست هذه أقنعة مثل تلك التي قال عنها غوفمان!
مع فارق أننا في حياتنا الواقعية نبدل أقنعة كثيرة «هذا وفقاً لطرح عالم الاجتماع إيرفينغ غوفمان» حيث يمكننا أنْ نقدم عدة شخصيات تبعاً للموقف الذي نحن فيه والأشخاص الذين نتعامل معهم، على سبيل المثال تختلف شخصيتك وأنت مع أصدقائك في سهرة أو رحلة عنها أثناء العمل أو مع الأسرة، بينما في العالم الافتراضي نختار شخصية واحدة نتقمصها ونقدمها لمتابعينا، كأنْ توهم الآخرين أنك مثقف، أو ناشط في مجال الدفاع عن الحريات وحقوق المرأة مثلاً بينما في الواقع أبعد ما تكون عن هذي الأمور وربما مناقض لها تماماً، في الحالتين يكون الهم الأوحد لدى الكثيرين هو الانطباع الذي نتركه عند الآخر والنظرة التي كونها عنا، وجمع أكبر عددٍ من المعجبين وأكثر عبارات المدح والتبجيل.
إلا أننا ونحن نتحدث في هذا الشأن لا يمكننا التعميم، لأن ثمة أشخاصاً جيدين يعكسون صورتهم الحقيقيَّة في الواقع والافتراضي من دون أي تجميل أو استعارة، وهذا لا ينفي وجود الفئة الأخرى في ضفة مقابلة تجد في وسائل التواصل الاجتماعي فرصة سانحة لتجميل صورتها، والإيحاء بأشياء بعيدة عن الواقع والحقيقة، في محاولة للظهور بمظهر مدهش ولافت.
من المؤكد أننا اليوم لا يمكننا التخلي عن أيٍ من العالمين لا الواقعي ولا الافتراضي، في الحياة الواقعية نحن موجودون مع أفراد نتعامل معهم شئنا أم أبينا، نرتبط بمظاهر معينة وأسلوب حديث محدد تبعاً للظرف والعمل، والعالم الآخر يبدو مشابها وموازياً فقد أصبح انتظار الإطراء والإعجاب واحداً من أساسيات حياتنا، ألم نصب بالإحباط ولو لمرة واحدة لأنَّ منشوراً كتبناه لم ينل عدداً من «اللايكات»؟
طالما أننا نحيا في عالمين متوازيين لم يعد من الوارد فصلهما، لمَ لا نحافظ على ذواتنا وهويتنا من الضياع؟ لمَ لا نقدم أنفسنا على حقيقتها؟ وصورتنا كما هي من دون فلاتر وتجميل! نقدم شخصيتنا وأفكارنا التي تعكس نضجنا ورؤيتنا. لعلنا نغير تلك الرؤية التي قال بها الفيلسوف الألماني فيورباخ منذ عقود: «إننا نعيش في عصر يفضل الصورة على الشيء، والنسخة على الأصل».