باسم عبد الحميد حمودي
يوم كان المثقف العراقي التنويري يقاوم التخلف الاجتماعي –السياسي في تركيبة النظامين الملوكي-الجمهوري الأول’لم تكن هناك فوارق كبيرة بين الحاكم(عدا الملك ثم الزعيم ) وبين الوزراء والنواب والأعيان وبين المعارضين,سوى في اصطفافات الولاء والرفض ,وتلك ظاهرة يطول شرحها,لكننا هنا نحاول الحديث عن اسر التنوير العراقية في العهدين الملكي والجمهوري الأول ,باعتبارها اسرا وعوائل ساهمت في تغيير النموذج الثقافي في المجتمع ورفعت من ذائقته وفكره عبر العمل الدؤوب من أجل التغيير الفكري.
وقد اتاحت لي الحياة فرصة الاحتكاك ببعض هذه الاسر باعتبار قربي من بعضها بحكم القرابة أو الصداقة,لكن بعض هذه الاسر كانت قد عاشت عالمها الاجتماعي,مثل أسر الملائكة والخليلي والجادرجي وشرارة وأبي قلام ببغداد والجواهري والجعفري وبحر العلوم وسواها في النجف .والطعمة في كربلاء والجلبي وحداد وباش أعيان في البصرة ,والجلبي الموصلي وآل الطالب وآل الصايغ في الموصل كامثلة متصلة ببعضها وببعض الاسر الاخرى المتقاربة بفعل قرب السكن أو الصلة القرابية.
كلها جميعا شكلت ظاهرة لافتة ولاتزال,وان كانت أجيال جديدة ,واسر أخرى قد تصاعد شأنها بحكم البعد والقرب والانقطاع والاستمرار,وهو أمر حاصل دوما على مدى التاريخ الانساني.
لا أزعم هنا أني سأذكر كل الاسر وأدوارها التنويرية ,ولكنها أشارات على طريق دربها الثقافي المؤثر في الاجيال الاخرى.
من هذه الاسر اسرة آل سليم في بغداد,وهي اسرة كبيرة متنوعة التجارب ضمت الاب الضابط وقارئ المقام وأولاده كما سنرى:
نزار سليم حاورني عن اسرته
تحدث لي صديقي الراحل نزار سليم(القاص والتشكيلي والمترجم) وهو يحاورني عام 1974وانا اعد عنه حلقة إذاعية عن تجربته القصصية لبرنامج (نادي القصة) الذي كنت اعده الى اذاعة بغداد من اخراج محمد زهير حسام –باسل علي عمران .
قال نزار:
تعرفت على القصة من خلال الاقاصيص الكثيرة التي كانت ترويها لي أمي.. كعنصر أولي,لترويض خيالي ,كما أني كنت أقرأ على عمتي العزيزة ما تقع عليه يدي من الروايات والقصص,كما أني تعرفت في البداية على أقاصيص صديقي خلدون ساطع الحصري التي ينشرها في ملحق جريدة المكشوف البيروتية,وخلال ذلك كنت مستمرا في إصدار مجلتي الخطية ((الصبا)) التي كنت أكتب وأرسم فيها.... هناك حقيقة الترابط بين الرسم والكتابة،بل بين أوجه الفن بصورة عامة،وكان ذلك واضحا في جونا العائلي,فسعاد كان ممثلا ورياضيا ووالدي مقرئا للمقام وجواد كان عازفا للكيتارونحاتا ورساما.
ويستمر نزار سليم في الحديث عن تجاربه الشخصية كمنتج تشكيلي وقاص وتجربة جماعة الوقت الضائع التي كان هو وشقيقه الأكبر النحات العبقري جواد سليم من اقطابها,وقد اسست الجماعة مقرا لها في مقهى(الواق واق ) في ساحة عنترة مطلع الاعظمية ليشكل وجودها واحدة من التجارب الفنية والثقافية المرموقة في اربعينيات القرن العشرين.
ولتجربة (الواق واق )أكثر من حديث سبق أن تناولته في كتابات متعددة وحاضرت عنه في الاتحاد وكتب عنه كل من الاساتذة:علي جواد الطاهر وسامي مهدي وعبد القادر حسن امين وسواهم.
اسرة سيا ــ ثقافية
وكان من الاسر البغدادية التي تلتصق بها السياسة رديفة للثقافة,اسرة القاص الرائد عبد الملك نوري,فوالده هو الفريق عبد اللطيف نوري الشخصية الثانية في انقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936 ووزير دفاع حكومة حكمت سليمان,ولكنه كان شخصا محبا للفنون عاشقا للمقام وقد أقام حفلا كبيرا في داره تكريما للسيدة أم كلثوم عند حضورها الى بغداد وقد غنت فيه للرجال والنساء معا ,وكان لا يمنع ولده البكر (عبد الملك)من ممارسة حياته كما يشاء وقد ارسله الى بيروت لدراسة القانون.
عاد عبد الملك ليجد والده شبه متقاعد من الجيش بعد سقوط بكر صدقي ولكنه تمكن من الدخول في معترك الحياة الثقافية والسياسية وصار واحدا من كبار قيادة حزب الشعب الذي كان يتزعمه السيد عزيز شريف,وقد اقترن عبد الملك – بعد رحلة عشق طويلة- بالدكتورة أمة العزيز الزهاوي في بيت متواضع لم تقم فيه حفلة عرس ولا ارتدت العروس بدلة بيضاء امام
الناس!.
فضل القاص نوري والطبيبة الشابة الزواج بمفردهما بعيدا عن الاحتفالات المعتادة هكذا لولا حضور الدكتورة آمنة صبري مراد بيتهما للتهنئة وهي ابنة خالة عبد الملك ,وهكذا استمرت حياتهما الزوجية القصيرة محتدمة العاطفة لولا قبول (أمة العزيز ) في البعثة الطبية الى الولايات المتحدة .
اضطرت الزوجة الشابة للسفر وحيدة على أمل أن يلتحق بها عبد الملك ،لكن المفوضية الامريكية ببغداد لم تمنح عبد الملك فيزا السفر ليساريته فانقطعت العلاقة بينهما بعد اشهر من الخصام ..على الورق.
لم يتزوج عبد الملك بعدها حتى وفاته ,أما (أمة العزيز) فقد تزوجت بعد فترة طبيبا اميركيا يدعى(جون نيولاند) بعد ان اشهر اسلامه وانجبت منه فتاتين!.