جاك دريدا ولغة الضاد

ثقافة 2019/03/04
...

نصير فليح
 
 
الاشكاليات التي تكتنف الترجمة عديدة وكثيرة. وفي الترجمة الى العربية تتفاقم هذه الاشكاليات لعدة اسباب على راسها الواقع المتاخر للترجمة والثقافة العربية عموما. وترجمة المصطلح من اهم واصعب الاشكاليات التي تواجه المترجم او الباحث. فلا تنسيق بين الجهات المختلفة المعنية بالترجمة، وحتى اذا وُجد شيء من ذلك، فهو في الحد الادنى الذي لا يُغني ولا يستطيع مواجهة هذا الكم النوعي الكبير من التحديات قي ترجمة الفكر العالمي الى العربية.
في كتابنا (ميراث الغائب) نناقش اثنين من اهم مصطلحات جاك دريدا وترجماتها الى العربية. وهما deconstruction الذي ترجم الى العربية بعدة بدائل مثل "النقضية" و"التشريحية" و"اللابناء" و"الانزلاقية" و"التقويضية" و"التفكيكية". وايضا مصطلح différance الذي ترجم الى ما يناهز الثمانية عشر بديلا في العربية (!)، وهي كالتالي بالاستناد الى كتاب (دريدا عربيا) لمحمد أحمد البنكي:
الإرجاء (جابر عصفور)، الإختلاف (جابر عصفور)، الـ(إ)(ت)خـ(ت)لـ(ا)ف (الحسين سحبان)، المغايرة (فريد الزاهي)، الإختلـ(ا)ف (إدريس كثير، عز الدين الخطيبي)، المباينة (عبد السلام بنعبدالعالي)، الاختلاف المُرجأ (هدى شكري عياد)، Différance (سمية سعيد)، الديفيرانس (سمير مسعود)، الاختلاف (عبد المقصود عبد الكريم)، فَرقُ التأجيل (يوئيل يوسف عزيز)، الاختلاف(a+) (بختي بن عودة)، الفارق (فاطمة الجيوشي)، الاختلاف والإرجاء (محمد عناني)، الإخـ(تـ)ـلاف (كاظم جهاد)، الفَرْق (محمد بنيس)، المباينة (سعيد علوش)، الاخترجلاف (عبد الوهاب المسيري). 
التفكيك والتقويض:
ولا يتسع المجال في هذه المقالة الموجزة للتوسع في ذكر كل المراجع والمحاججات في كتاب (ميراث الغائب)، ولهذا سنتوقف على عجل مع نقطة رئيسية بخصوص "التفكيك" و"التقويض". ورغم اننا نتوصل في ذلك البحث الى ان "التقويضية" تبدو اكثر الترجمات العربية دقة، فاننا لا زلنا نستخدم "التفكيكية" في كتاباتنا لان هذه الترجمة استقرت في التداول بشكل يجعل منها امرا واقعا. 
لننطلق من فقرة هامة عن deconstruction من كتابThe Derrida Dictionary  ( = معجم مصطلحات دريدا) (منشورات بلومزبيري، 2010):
"المعنى الفرنسي للمصطلح يتضمن تفكيكا (diassemblage) شكلانيا، ميكانيكيا، أو معماريا. مع ذلك فإن دَرِيدا يسارع الى التذكير بأن الــ deconstruction لا يقيد نفسه بالتحليل النقدي للبنى والأنساق. ولا يقيد بحثه في البنية أو "الماكنة"، ولا يَبسط نفسه ببساطة في هذه المصطلحات. بالأحرى، ان التفكير التقويضي بـ "الإختلاف المُرجأ" (différance)، "الأثر" (trace)، "الملحق" (supplement)، "الكتابة الاصلية"... الخ، يبقى منفتحا بقوة على ذخيرة لانسقية، بقية غير حاضرة أو آخر لا متجانس يتخطى كل البنى والانساق حتى عندما يجعلها ممكنة".
وهذه الفقرة تتضمن نقطة اساسية في مناقشتنا هنا. اذ تشير الى ان مصطلح deconstruction يتضمن ايضا في الفرنسية معنى تفكيك شيء ما ميكانيكيا او معماريا. ولكنها تبين في الوقت نفسه، وهنا مربط الفرس كما يقال، "يظل منفتحا بقوة على ذخيرة لانسقية، بقية غير حاضرة أو آخر لا متجانس يتخطى البنى والانساق".
معنى "التفكيك" بالعربية يرتبط ايضا بتفكيك شيء ما، سواء اكان نسقا ميكانيكيا او معماريا او ما شابه. لكن المعنى الاصلي لمصطلح deconstruction لا يسير بهذا الاتجاه، لانه اصلا يسعى الى خلخلة النسق نفسه، وليس حله او العمل على اعادة تركيببه مجددا. فهو مسعى لخلخلة النسق للكشف عن المسكوت عنه، والهامشي الذي لا يتسق مع النسق، وكشف التناقضات والتوترات الكامنة رغم التجانس الظاهري والوحدة النسقية المزعومة، وان كل نسق له فضلة غير متجانسة معه يتوجب كشفها واستنطاقها. وهذا كله يصب لصالح "التقويض" لا "التفكيك".
وللتوضيح اكثر، لعل هذا اشبه بهز بناية ما هزّاً عنيفا للكشف عن نقاط الخلل، وما هو مقحم تعسفيا في داخلها، واظهار المتنافر والهامشي والصدوع، لانه اصلا ليس هناك اعتراف في المقاربة التفكيكية بنسق متكامل متجانس بصورة تامة. وعند الكشف عن هذه المواطن المتناقضة في داخل النسق، يمكن حينها معارضتها في ما بينها، وبالنسق الخارجي الظاهري او المزعوم، وما يترتب على ذلك من انفتاح لفضاءات جديدة للقراءة والمعنى، واحالات المعنى، والكشف عن تناقضات الهوية، او التراتبيات الهرمية، والتعارضات الثنائية الشائعة في انماط التفكير.
وعودة سريعة الى المعاجم العربية تؤكد ما نذهب اليه. ففي لسان العرب: (فككت الشيء، خلصته. وكل مشتبكين فككتهما فقد خلصتهما، وكذلك التفكيك. ابن سيده: فك الشيء يفكه فكا فانفك فصله...). بينما يقول في تناوله لـباب (ق.و.ض): (قوض: قوض البناء نقضه من غير هدم...) وهو المعنى الاقرب، كما هو واضح، لما تناولناه اعلاه. ورغم ان "التقويض" قد يتضمن في اللغة احيانا معنى "الهدم"، فانه اقرب الى الخلخلة من الهدم التام، وهذا ما يجعل "التقويض" اكثر ملامة من "النقض" ايضا، وبالتالي من ترجمة deconstruction الى "النقضية".
ترجمات أخرى:
اما بالنسبة لبعض الترجمات الاخرى مثل "الانزلاقية" و"التشريحية" فترجمات غير موفقة ابدا، كما نرى. فالاولى مثلا غير ملائمة لا من حيث معنى "الانزلاق" في العربية ولا من حيث العلاقة مع معنى المصطلح الاصلي. كما ان "التشريحية" تمثل اخفاقا مزودجا ايضا. فالتشريح في العربية، سواء استخدم بالمعنى الطبي او في سياق تشريح المعنى في المناهج الانسانية، غير ملائم لانه بعيد عن المعنى الدقيق لـ deconstruction الذي بيناه، من جهة، كما انه اصلا مستخدم وموجود ومفروغ منه في الدراسات الانسانية او غيرها، كما في استخدام الناقد الشهير (نورثروب فراي) لهذا المصطلح في كتابه المعروف (تشريح النقد) Anatomy of Criticism. وكما يشير كتاب (دريدا عربيا) آنف الذكر بخصوص "التشريحية"، فقد استخدمه عبد الله الغذامي وعبد الملك مرتاض، ثم تحول عبد الملك مرتاض الى "التقويض"، وجاراه في الاختيار الاخير ميجان الرويلي وسعد 
البازعي.