يصل الى حد الانتحار .. الأثر السميّ لـ «فيسبوك» على عقول المراهقين

بانوراما 2021/10/21
...

   سيفا فاديانثان                            
   ترجمة: أنيس الصفار       
على مدى السنوات واجهت شركة «فيسبوك»، التي تعد أشد منصات التواصل الاجتماعي الرقمية نفوذاً في التاريخ البشري، سيولا من انتقادات جماعات حقوق الانسان والباحثين الاجتماعيين. تقرع هذه الجهات أجراس الخطر عن المناهج والاساليب التي تشوه بها «فيسبوك» عالمنا وكيفية ترويجها لسلوكيات هدامة تتراوح من اضطراب عادات الأكل وصولا الى الابادة الجماعية. 
رداً على هذه الانتقادات تعهد «مارك زكربرغ» والملاكات العاملة معه أكثر من مرة بإجراء إصلاحات لمعالجة الأمر. فكثير من تلك التعهدات والتوقعات كانت صادقة، ولكن ظهر لاحقاً ان الهندسة والدوافع الداخلة في تكوين بنية «فيسبوك» أدت الى تقويض مساعي تصحيح مسار هذه الخدمة، كما أن ملاكات البحوث في «فيسبوك» نفسها كانت قد أبلغت رؤساء رفيعي المستوى باخفاقات الشركة الشديدة في هذا الجانب. فخلال منتصف شهر أيلول الماضي نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» سلسلة من المقالات المستندة الى دراسات داخلية ووثائق سربها باحثو شركة فيسبوك تكشف مدى ازدواجية زكربرغ، أو لعلها غفلته، في ما يتعلق بشركته والآثار التي تحدثها في العالم. وكشفت الصحيفة ان «فيسبوك» تحتفظ بسجل خاص يضم الشخصيات شديدة الأهمية، مثل مشاهير النجوم والسياسيين، وهؤلاء ترفع عنهم الضوابط الصارمة المتعلقة بمضمون منشوراتهم التي تفرض على عامة الناس.
وفي مقالة ثانية ثمة اتهام أقوى لـ»فيسبوك» ومدرائها. تكشف الصحيفة أن باحثي شركة «فيسبوك» وثقوا المخاطر النفسية التي يحدثها تطبيق «إنستغرام»، المملوك لشركة «فيسبوك»، بالمراهقين، لا سيما الفتيات منهم. فقد عرضت وثائق «فيسبوك» الداخلية الصورة على النحو التالي حسب تعبيرها: «لقد تسببنا، نحن «إنستغرام»، بجعل كل ما يتعلق بشؤون الجسد صورة منحطة في نظر واحدة من بين كل ثلاث فتيات بسن المراهقة، والمراهقات اليوم يوجهن اللوم لـ»إنستغرام» في ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب لديهن. لم يكن رد الفعل هذا مقصوداً ولكنه كان ثابتاً في سائر المجاميع». واظهرت الدراسات أن 13 بالمئة من المراهقين البريطانيين و6 بالمئة من المراهقين الأميركيين (من مستخدمي التطبيق الذين راودتهم افكار الانتحار) قد أرجعوا مصدر رغبتهم في قتل انفسهم الى تطبيق «إنستغرام».
كان مدراء «فيسبوك» على علم بأن خدمتهم تسبب الضرر للناس، ولكنهم رغم هذا رفضوا الإقرار بذلك علناً او اتخاذ اجراء لمعالجة الأمر. من الواضح ان سلامة المراهقين لم تكن موضع قلق لدى مدراء الشركة، ففي شهر آذار تحدث زكربرغ خلال جلسة استماع امام الكونغرس فقال: «تدل الابحاث التي اطلعنا عليها ان استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي كانت له فوائد ايجابية على الصحة العقلية.» ولكنه لم يقدم اي بحث يدعم ما قال، ولعله كان يعلم ان الحقيقة هي خلاف ذلك.
خلال التسريبات الأخيرة أشار تقرير لصحيفة «وول ستريت جورنال» أنه بعد الوعود التي اعطاها زكربرغ بنشر المعلومات بخصوص (كوفيد- 19) ومسألة اللقاح انطلق مستخدمو «فيسبوك» المعارضون للتلقيح، او المشككون بحقيقة خطر (كوفيد- 19)، ليمارسوا ما كانوا يمارسونه سابقا: وهو اغراق حقل التعليقات لأي منشور سليم المصدر بسيل من المعلومات المضللة الزائفة المضرّة بالصحة العامة، فكانت نتيجة ذلك فوضى من الاصوات المتنافرة. هذه الاسراب من المعلقين المعارضين للقاح، الذين يكونون عادة اشد حماساً وتحفزاً من أولئك الذين يثقون بالعلوم الطبية، نجحوا في إفشال هدف تأييد التلقيح الذي حدده زكربرغ.
 
خطر التعليقات المضادة
تركز الخوارزميات على المنشورات التي تجتذب كثيراً من التعليقات وتعمل على إشاعتها وترويجها، ولكن تلك التعليقات، بما فيها المضرة، تكون جزءاً لا يتجزأ من الرسالة الإجمالية للمنشور فتروج معه ومن بعد ذلك تندلع السجالات.. وكلما تصاعدت حدة التراشق بالتعليقات اللاذعة التمع المنشور واتسع انتشاراً، فتنتشر معه التعليقات المرافقة. ولهذا السبب ليس من الحكمة ان تجادل خبيثاً او جاهلاً او سفيهاً على موقع «فيسبوك»، لأن النتيجة سترتد عكسياً عليك. من سوء الحظ ايضاً ان نشر المعلومة الرصينة تكون نتيجته ان يرتد عكسياً عليك ايضاً بصورة من الصور، لأن هذا النوع من المعلومات لا يجتذب اهتمام كثير من القراء، ومن الممكن ان يجتذب اليك ردوداً مسمومة. هذه التعليقات كلها تحرف جوهر الرسالة شيئاً فشيئاً، حين يلتقطها «فيسبوك» ثم يعيد بثها الى المستخدمين عبر التغذية الاخبارية.
التعليقات لها أهميتها لأنها مع المشاركات وايماءات الاعجاب تحفز «التفاعل»، وكل ما في «فيسبوك» مصمم لتصعيد درجة التفاعل الى اعلى المستويات، أكثر حتى من الارباح. فإذا ما نجحت الشركة في جعل 3 مليارات مستخدم يتفاعلون مع المحتوى لأطول مدة وأعلى تكرار ممكنين فإن الارباح ستأتي لوحدها. يجادل عالم الاجتماع «جيرمي ليتو» بأننا نحتاج الى تحليلات تجريبية أفضل للتأثيرات التي تحدثها التعليقات عبر «فيسبوك» على مجمل النفوذ التواصلي عبر الموقع. الان فقط بدأنا نفهم شدة تأثير التعليقات على نظام التضخيم الخوارزمي الخاص بـ»فيسبوك» وعلى المستخدمين.
خذ التعليقات بخصوص لقاحات (كوفيد- 19)، حتى تلك التي لا تتناولها بشكل مباشر، وسترى ان لها تأثيرات عميقة. فحين يظهر منشور على صفحة مجموعة ما في «فيسبوك» موجه مثلاً الى أهالي الاطفال او المدارس فإنه قد يتسبب في اطلاق حملة من التعليقات المعارضة للتلقيح، وهذه التعليقات تجتذب اهتماماً وتفاعلاً واسعين ومؤثرين. أو لو ظهر منشور يتعلق بلاعب كرة مشهور، واتفق ان أطلقت سياسات التلقيح موجة من ردود الأفعال السلبية من جانب اللاعبين والجمهور، فإن ذلك المنشور قد يتحول الى بؤرة نشطة للدعاية المضادة للتلقيح. بيد ان معظم الباحثين وانظمة «فيسبوك» المتعلقة بالحفاظ على اعتدال المحتوى لا يبدون مبالاة بالتعليقات. 
مؤخرا شهدنا بداية ما قد يتحول الى سيل مستمر من الوثائق والدراسات الداخلية التي تكشف لعامة الناس مدى السوء، الذي يشيع في عالم صناعة التكنولوجيا. فعلى مدى السنوات كانت الخرافة التي تزعم أن هذه الشركات تقدم للعالم خدمة «افضل» تقدّم للعاملين فيها مكافأة معنوية.. وكان بوسع هؤلاء العاملين ان يناموا قريري العين مطمئنين الى ان جهودهم ووسائلهم تصب في تحسين اوضاع الانسانية.
ربما يكون كثيرون منا قد أدركوا ببصائرهم منذ سنوات الحقيقة الكامنة وراء هذا الهراء ولكن العاملين في التكنولوجيا استغرقوا وقتاً أطول قبل ان يروها، ومن الواضح الان انهم مستعدون للانتفاض بدافع الاشمئزاز المحض. لا ريب ان العمل لدى «فيسبوك» تجربة اخلاقية واجتماعية ضاغطة ومدمرة.
بعد كل ما قلناه يظهر من أحدث التسريبات التي انكشفت ان لا أمل يذكر في إصلاح منصة التواصل هذه بمجرد تغيير ثقافتها او تصميم بنيتها. إن عالماً فيه فيسبوك سوف يكون أقسى وأغبى وأشد وبالاً من عالم يخلو من «فيسبوك»، ولكن يبدو أننا وإياه قد علقنا معاً.