ميادة سفر
لم تكن النكتة مجرد حديث ساخر من واقع ما يتناقله عامة الناس، بل حظيت باهتمام علماء النفس والاجتماع الذين بحثوا فيها وتحدثوا عنها وعن آثارها، فها هو الفيلسوف هنري برجسون يعتبر أن:» لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة لقهر القهر، وهتاف الصامتين، إنها نزهة المقهور والمكبوت والمسكوت عنه»، فالنكتة هي ملامسة آلام الشعوب ومطالبهم ورفضهم لما يحدث إنما بشكل ساخر ومضحك، إنها تلمح ولا تصرح بدافع من الخوف غالباً.
بينما عرفها عالم النفس سيغموند فرويد: «هي ضرب من القصد الشعوري والعملي، يلجأ إليه المرء في المجتمع ليعفي نفسه من أعباء الواجبات الثقيلة، ويتحلل من الحرج الذي يوقعه في الجد ومتطلبات العمل»، وكأنها شكل من أشكال الدفاع عن النفس، وطريقة للتحايل على الواقع المزري، ومحاولة التأقلم معه وحماية النفس من الوقوع في أزمات نفسية مؤذية.
لا يوجد تاريخ محدد لظهور النكتة فهي جزء من الأدب الشعبي غير المكتوب، انتجته الشعوب عبر تاريخها وتناقلته الأجيال، نشأت مع نشوء اللغة وتطورت تبعاً للظروف والأحوال التي تخص كل بلد على حدة، وحسب الظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها أبناء المجتمع، فقد أصبحت تعبر عن الإنسان وتفاعله مع ما يحيط به من أحداث، حين وجد أنه بحاجة لمتنفس يفرغ من خلاله عن همومه، ويعبر به عن تذمره ورفضه، فكانت النكتة التي بقيت مجهولة المصدر، لم يعرف مطلقها لأنها نابعة من تجليات إنسانية آنية تخطر في ذهن أحدهم كرد فعل على حوادث وسياسات وعادات وأفعال مرفوضة، لتجد صداها لدى الجمهور الذي يتلقفها بضحكات مجلجلة، وكأننا به يضحك على حاله.
تطال النكات مختلف جوانب الحياة، ويكاد لا يخلو جانب إلا نالت منه النكات وألفت المواقف المضحكة، إلا أنّ النكتة السياسية تكاد تتصدر القائمة باعتبارها الأكثر انتشاراً ورواجاً، اذ تجد في المواقف السياسية والقرارات وغيرها من أمور يقوم بها رجال السلطة أحد أبرز الدوافع لإبداع النكات وترويجها خصوصاً في ظل الأنظمة القمعية، التي ينتشر فيها الظلم والقمع وتصادر فيها الحريات، بحيث تشكل سلاحاً تواجه به الشعوب المستضعفة السلطات المستبدة.
لكن مهلاً!، متى كانت آخر مرة سمعت فيها نكتة جديدة؟، يبدو أنّ ثمة أفولا لتلك النكات التي كان يتم تداولها والضحك منها، تختفي النكتة بشكلها المعتاد ويأفل نجم قائليها ومستمعيها، لتحل محلها بوستات على منصات التواصل الاجتماعي التي اتاحت للبعض منابر مجانية وفسحة من حرية ليقال ما يصعب قوله في الواقع، على الرغم من الملاحقات التي يتعرض لها مدونوها من تضييق وترهيب بتهم شتى.
حين تضيق فسحة الأمل، وتشتد أوجاع الناس، ويزداد القمع والاستبداد، وتنهش الأزمات أجساد الفقراء، تُكمم الأفواه وتُقتل الكلمة وتتحطم أقلام الكتاب، وتغدو السخرية سبيلاً مباحاً وبقعة ضوء في عتمة الواقع، وتبقى أوجاع الناس مراوحة ما بين الهزل والجد، بانتظار فرج قريب، وإلى ذلك الوقت يظلُّ الضحك وسيلة للبقاء على قيد الحياة والأمل.