أ.د. مها خيربك ناصر
يحملنا الشوق المعرفيّ إلى زمن جميل كان الانتساب فيه إلى الجامعة مسؤوليّة تحرّض على القراءة والسعي والبحث..
زمنٍ كان فيه الطالب الجامعيّ أيقونة تتبارك بعرق تعبها قاعات التدريس وأزقة الأحياء الأصيلة...
زمنٍ كان فيه الأستاذ الجامعيّ رمزًا للقيم والأخلاق، ومكتبة متنقلة، ومرجعًا علميًّا، ومحجة فكريّة...
زمن لم تكن فيه السرقات أساس عملية التعليم والتعلّم، ولم تكن فيه الامتحانات محصورة في عدد قليل من أوراق تفضّل بها أستاذ المادة بعد أن جمعها من محاضرات ليست له...
زمن كانت فيه المصادر والمراجع وأمات الكتب قبلة طلاب الجامعيين الباحثين عن المعرفة وعن التمايز الأكاديميّ...
لقد استُعيض عن قراءة أمات الكتب بمحاضرات ممسوخة يخبر فيها بروفسور مصون عن نفسه وعن إنجازاته ويتحدّى في خلالها قدرة الطلاّب على النجاح ...لأنّ ما يتفضّل به من معلومات يستعصي فهمها على من يفهم.....
ليس من المنطقيّ أن يتحدّى أستاذ طلابه؛ لأنّ النجاح ما هو إلا أجر الطالب على ما بذله من جهد معرفيّ، والعلامات المتمايزة ما هي إلاّ هدية شكر لأستاذ جعل بذار فكره وعطائه في أرض خصبة ، فتبارك ما زرعه في العقول، وأثمر فهمًا وتحليلاً وحضورًا في أذهان المتلقين..
لا يبشّر الواقع الجامعيّ، اليوم، بغدٍ أفضل؛ لأنّ معظم ما تتضمّنه المحاضرات يشبه الوجبات السريعة، ومعظم النتائج لا علاقة لها بالعدالة العلميّة، فربّ طالب تعب وجدّ وبحث وفتشّ، ولكنّ التفوّق كان من نصيب من هو أقلّ منه كفاءة ومعرفة وعلمًا، وذنبه الوحيد أنّه لا يقبل أن يشتري العلامات ببدل ماديّ أو معنويّ، فصار حضوره مصدر قلق وخوف من كشف تقصير بعضهم وفشلهم وادعاءاتهم.
لقد حوّل بعض جهابذة الفكر الجامعاتِ إلى مداجن تُنتج كلّ عام آلاف الشهادات المفرّغة من القيمة العلميّة والمعرفيّة والأخلاقيّة، وسيكون حاملو هذه الأوراق قادة في مجتمعات ترهّلت، وحُكم عليها بالفساد دينًا ومعتقدًا...
إنّ المشكلة الأساس التي تنذر بانحطاط المستوى التعليميّ والاجتماعيّ والسياسيّ تكمن قي تفقيس شهادات دكتوراه بمعدلات عالية من دون أن يكون حاملوها جديرين بنيل أعلى شهادة علميّة، لأنّ معظم الأطاريح لا تقدّم الجديد، وفيها الكثير من الإعادة والتكرار، وتفتقر إلى منهجيّة علميّة، وربّما كان السبب الاستسهال وغياب دور المشرفين الذين لا يقرأون ويصرّون بعد المناقشة على منح طلابهم أعلى الدرجات، فأي مستقبل ينتظر جامعات أساتذتها عاجزون عن البحث الأكاديميّ؟؟؟
فاقد الشيء لا يعطيه، ورضوخ القيمين على المؤسسات للمحاصصة والعلاقات الخاصة ينبئ بكارثة؛ لأنّ نتيجة إهمال تحصين المجتمعات بالتربية والعلم تصدّع البنيات كلّها وانهيارها.
... ما أحوجنا اليوم إلى يقظة ضمير تفجّر الوعي؛ ليدرك به القيّمون على المداجن التعليميّة خطورة ما يقومون به، وربّما يرجون التوبة والغفران!