روما في ظل مجلس شيوخها

بانوراما 2021/10/25
...

  ترجمة: مي اسماعيل
منذ بداياته المتواضعة حتى اصطدامه بالعديد من امبراطوريات روما، كان مجلس الشيوخ  الروماني دائما صوت الشعب الحازم. فعلى مدى آلاف السنين، حكم الرومان واحدة من أقوى الدول الأممية في التاريخ. كان ذلك زمنا للقوة العسكرية المدهشة والحدود المتوسعة؛ حين كان شعار النسر يشير إلى حقبة جديدة من التوسع الامبريالي. لكن الرومان لم يكتفوا بترك بصمتهم خارج وطنهم؛ بل في مجلس الشيوخ الروماني. كان لروما شكل فريد من نظم الحوكمة؛ بوجود برلمان يجمع رجالا حكماء يملك كل منهم حق التعبير عن رأيه جدالا، وحيث يجري تقرير القوانين التي ترسم مصير الأمة. 
يسود الاعتقاد أن مجلس الشيوخ كان الى حدٍ ما يتناسب، كمؤسسة، بشكل مرادف جدا لروما ذاتها، وأنه تشكل للمرة الأولى تقريبا عندما أسس الملك {رومولوس} المملكة الرومانية، حوالي سنة 753 ق.م. اختار الملك رومولوس روما مركزا لحكمه، وأسس مجلسا جديدا للدولة يتولى مهام التشريعات العملية والبنى التحتية السياسية العامة. وكان ذلك بداية لتأسيس مجلس الشيوخ بأبسط صورة أولية؛ وأخذت ملامحه الأساسية تتضح منذ أيام روما الأولى. 
 
مستودع السلطة التنفيذية
بدلا من اختيار مواطنين عاديين؛ كان يجري انتقاء أعضاء البرلمان من بين الأسر ذات التأثير في المنطقة. اعتاد رومولوس اختيار مئة شخص؛ غير أن هذا العدد ارتفع الى 300 عندما ازداد عدد الأفراد ذوي الشأن. أُطلقت عليهم تسمية {الآباء- patres} أو ((patriarchs؛ والتي تعني الرجل الأكثر أهمية في العشيرة. لم يكن لأولئك الأفراد (ولا لمجلس الشيوخ ذاته) القوة التي سيحكم بها في القرون اللاحقة؛ بل كان الى حدٍ ما في تلك المرحلة مجلسا استشاريا للملك؛ لكنه كان مع ذلك منصة {للشعب}، ليوصل قضاياهم الى مسامع الملك. كان لمجلس الشيوخ الروماني في المملكة ثلاث وظائف في السنوات التي سبقت تأسيس الجمهورية؛ أولا- جهة استشارية للملك. ثانيا- جهة تشريعية لشعب المملكة. وثالثا- المستودع النهائي للسلطة التنفيذية. كان يمكن للملك بالطبع أن يتجاهل المشورة التي يقدمها المجلس؛ ولكن بمرور السنين نمت هيبة مجلس الشيوخ؛ وعلى نحو متزايد أصبح من الصعب أن ينبذ ببساطة ما يصدر عن هيئة مهمة هكذا. وكانت تلك بداية نمط صاخب يلاحق عمل مجلس الشيوخ عبر التاريخ؛ سواء لفائدة المجلس ولأخطائه أيضا..
جزء من تأثير مجلس الشيوخ (خاصة بين أفراد الشعب) كان يكمن في الطبيعة الأبوية (البطرياركية) للمجتمع الروماني حينها. إذ كان يُنظر الى كبار القوم بأعلى درجات الاعتبار؛ وهذا خلق مجالا قويا للسلطة. وحتى التاج كان خاضعا لإرادة مجلس الشيوخ في بعض القضايا.. فعلى سبيل المثال لا يمكن للملك الجديد (الذي يختاره الشعب ومجلس الشيوخ) أن يعتلي العرش إلا بموافقة مسبقة من المجلس. وفي المرحلة الانتقالية تتركز جميع السلطات التنفيذية في مجلس الشيوخ؛ ما يجعله مصدر القوة الأكبر في البلد. 
 
إلغاء الملكية
حكم المملكة الرومانية سبعة ملوك في تاريخها؛ وسيقوم سابعهم بتغيير شكل السلطة، وعلاقة التاج بالمجلس.. الى الأبد. كان {لوسيوس تاركينيوس سوبيربوس}، أو {لوسيوس الفخور} (كما كان يسمى أحيانا) الطاغية النموذجي؛ رجل إتخذ سبيله الى السلطة عبر القتل وأساء استخدام فاعليتها من كل جانب. كان في حرب مستمرة، وبتزامنها مع هوسه ببناء صروح جديدة؛ جففت أعماله موارد الخزينة. ثم خلعه مواطنوه حينما وردت أنباء اعتداء ابنه على إمرأة نبيلة. وكانت خطوة جرى استخدامها كوسيلة لخلع العائلة المالكة؛ وأيّد الشعب والنبلاء والجيش نفي الملك. 
بعد إلغاء الملكية عام 509 ق. م.، استمر دور مجلس الشيوخ كهيئة استشارية، وارتفع عدد أفراده ما بين 300 إلى500 عضو، يخدم كل منهم مدى الحياة. لم تعد الجمهورية ترغب بأن تكون ضحية لإرادة رجل واحد؛ لذا اتخذ قرار ابتكار منصب {القنصل}، وأن يتم انتخاب شخصين للمنصب من قبل الشعب، (يتم انتخابهم لمدة عام واحد في كل مرة) ليخدما سوية. يمكن للقنصلين استدعاء مجلس الشيوخ في أي وقت؛ لكن تلك السلطات التنفيذية قلما أُسيء استخدامها في أيام الجمهورية الأولى. ومع مرور السنين تعززت قوة مجلس الشيوخ، وكان القنصلان مسؤولين عن قيادة الجيوش وتمثيل الجمهورية. لكن المجلس كان مسؤولا عموما عن إدارة جميع النواحي الأخرى تقريبا في الدولة؛ ومنها- الاقتصاد وتشريع وتعديل القوانين ومراقبة محاكمة الاشخاص الذين يخالفون القانون ومناقشة أحوال ومشكلات الناس، في مجالس يمكن أن يُسمع فيها صوت الجميع. وبحلول هذه المرحلة بدأ العامة؛ ممن لا ينتمون لطبقة النبلاء بدخول مجلس الشيوخ، ولكن انقضى زمن طويل جدا حتى بدأت المناصب العليا تنفتح أمامهم. أصبحت العلاقة بين مجلس الشيوخ والقناصل أكثر رسمية خلال حقبة الجمهورية؛ وحينما كان المجلس يرغب بإيصال نصائحه للقناصل كان يقدم اليهم مرسوما يدعى (سيناتوكونسلتوم) {senatusconsultum}. ورغم أن هذا لم يكن أمرا؛ لكنه كان يحمل وزنا؛ وحتى أكثر القناصل حماقة كانوا يصغون إلى المجلس بغض النظر عن الموضوع؛ وخاصة حينما يتعلق الأمر بالحرب، إذ كان يجب أن يصدر قاض أمرا يجيز الحملات العسكرية؛ ما لم يتعلق الأمر بجيشٍ يغزو البلاد. والهدف- منع أي قنصل يبحث عن المجد في ميدان حرب بلا طائل.
 
ابتكار وظيفة {الرقيب}
أدى التمسك بقانون الجمهورية إلى جعل مجلس الشيوخ يتمتع بإحساس أخلاقي رصين في ما يتعلق بممارسة عمله. فعلى سبيل المثال كان محظورا على عضو مجلس الشيوخ تعاطي أي نوع من العمل المصرفي أو العقود العامة، والتوسط أو امتلاك سفينة كبيرة تصلح للتجارة الخارجية. ولم يكن بوسعه حتى مغادرة ايطاليا؛ لأهمية وجوده في روما. أما النقطة الأهم هنا هي أن السيناتور عضو مجلس الشيوخ  لم يكن يتلقى مرتبا مقابل عمله؛ وهو عامل يرتبط بكون أوائل الاعضاء كانوا أثرياء من أسر نبيلة. وهكذا كان يتوجب على مجلس الشيوخ امتلاك قوة ضمن كيانه تضمن أن يُطبّق أعضاؤه القواعد الأخلاقية. ومن هنا ابتكرت وظيفة {الرقيب- censor}؛ وتعني نوعا من الشرطة السياسية داخل المجلس، وكان عادة من بين أكثر الأعضاء احتراما، ممن لا يتأخرون بمعاقبة أقرانهم الذين يخرقون قوانين المجلس. أما الجرائم التي عاقب عليها الرقباء فكانت عادة- الفساد وإساءة استخدام عقوبة الاعدام وعدم احترام النواب الآخرين. غالبا ما تفرض الغرامات، ولكن احيانا يجري خلع النائب خارج المجلس حسب اساءته، ولا يُقبل في المجلس شخص له سابقة جرمية. وتوسعت العقوبات باتساع الجمهورية؛ إذ أجبر الفساد العام السيناتور على أن يكون أكثر حصافة في تدقيق الجرائم. 
كانت اجتماعات مجلس الشيوخ تجري داخل أسوار المدينة، ونصت القوانين أن ليس بالإمكان انعقاده أبعد من مسافة ميل واحد خارجها. كانت الاجتماعات التي تعقد خارج المدينة سياسية عادة؛ وقد تشمل مقابلة المبعوثين الأجانب الجدد؛ تفاديا لكشف دفاعات روما الداخلية أمامهم. في القرنين الأخيرين تغير أساس القوة التي يتحرك بها مجلس الشيوخ، وتدهورت العلاقة مع القناصل حينما تزايد دور السيناتورات وأصبح بإمكانهم معارضة القناصل والقضاة. ومع الوقت أصبح المجلس كيانا مستقلا ذاتي الحكم، فتجاهل قرارات القناصل. وبحدود سنة 312 ق. م. أصبحت سلطة اختيار السيناتورات حصرية لدى المجلس. كذلك آلت اليهم سلطة العلاقات الخارجية، مثل الموافقة على لقاء المبعوثين الأجانب ورعاية مصالح روما وراء البحار؛ مما يعني أن المجلس بات يعي وزن دوره في الماكينة الأكبر. رغم ذلك استمر المجلس بإظهار نوع من التقيُّد؛ إذ لم تظهر أي بادرة على رغبة انفرادية لحيازة السلطة المطلقة في الجمهورية؛ فبقيت صلاحية إعلان الحرب والمصادقة على الاتفاقيات بيد الشعب. 
 
قوة القانون المدني
بدأ دور مجلس الشيوخ بالانحسار قبل صعود الامبراطورية الرومانية؛ إذ بدأت الأمة بالتشظي بفعل الصراعات الداخلية، وتأسيس مجلس الحكم الثلاثي؛ وبضمنه الرجل الذي سيمهد لقيام الامبراطورية- {يوليوس قيصر}. وحينما أعلن قيصر نفسه دكتاتورا مدى الحياة تم اغتياله؛ فكان مجلس الشيوخ يمر بمرحلة تغير أخرى؛ فعند قيام الامبراطورية وإعلان منصب الرئيس أو الزعيم {principate} (التسمية غير الرسمية التي اتخذها امبراطورات الرومان. المترجمة) جرى رسم صورة لإمبراطور يعمل بالتعاون مع مجلس الشيوخ لإدارة الدولة؛ لكن الحقيقة أن الامبراطور احتفظ بجزء أكبر من السلطات مما فعل القناصل السابقون. تضخم عدد أعضاء المجلس الى 900، وهو تغير أحدثه يوليوس قيصر لإدخال مؤيديه؛ لكن الامبراطور الأول {أوغسطس} قلل العدد الى 600؛ كما نزع سيطرتهم على الخزينة فيما عزز سلطة العرش. وأصبح بالإمكان تعيين أفراد من العامة في المجلس بقرار امبراطوري، وأصبح للمجلس ثانية دور استشاري وبات تحت امرة الامبراطور. شهدت مرحلة نهاية الفوضى السياسية قيام مجلس {tetrarchy} الرباعي للحكم؛ الذي أدى لتقسيم الامبراطورية الى أربعة أجزاء، والذي أعطى الامبراطور سلطة عزل جميع أعضاء مجلس الشيوخ من دون إنذار. 
اضمحلت الامبراطورية لكن مجلس الشيوخ بقي؛ وإن كان مجرد قشرة لكيانه السابق. وأخيرا تلاشى مع تفتت الامبراطورية وتعرضها لغزو بعد غزو. ورغم أنه تابع الامبراطورية الى قبرها؛ لكن أثر مجلس الشيوخ الروماني على السياسة الحديثة ما زال باقيا حتى اليوم. وفكرة المجلس الذي يمكن فيه للانسان تقديم رأيه والاعتراض على قوانين لا يتفق معها توجد في العديد من البرلمانات الدولية، وكذلك فكرة القانون المدني (حيث تم تدوين القوانين جنبا إلى جنب مع العقوبة المتناسبة) موجودة الآن كقاعدة أساسية للقانون الحديث.
موقع  {أول أباوت هستوري}