لماذا تزايدت مناشدات العراقيين في وسائط التواصل الاجتماعي؟

علوم وتكنلوجيا 2021/10/25
...

د. صفد الشمري  
ما يشغل كثير من المواطنين هو البحث عن حلول لمشكلاتهم العامة والخاصة حتى صارت الفضاءات الرقمية منبراً بديلا عن مكاتب شؤون المواطنين يعج بالمطالب: لماذا ينصرف العراقيون إلى تلك الفضاءات في مسعى ايصال رسائلهم بقضايا احتياجاتهم إلى المعنيين بتلبيتها؟.
بين الحاكم والمحكوم
إذا كانت النظرة التقليدية للوسائل الاتصالية نوّهت بتوظيف النظم الحاكمة والأحزاب والتيارات السياسية للإعلام من أجل تحقيق عدد من الأهداف، فان جملة المتغيرات التقنية والإعلامية الدولية، التي امتاز بها المجال الجديد للإعلام، تضعنا أمام ضرورة الإعلان عن وظائف ديمقراطية لهذا المجال، فمثلما مارست وسائل الاتصال وظائفها في مسرّحة الحياة السياسية والتعبئة وتزييف الوعي السياسي، صارت الأوعية الرقمية منابر الناس لتداول الرأي فيها والمطالبة بالحقوق والكشف عن الانتهاكات التي تحصل في 
مجتمعاتهم.
ابداء الرأي والكشف عن المطالب لم يقف عند استخدامات حسابات وصفحات وسائط التواصل الاجتماعي، بل إن سطوة القوى النافذة على وسائل الإعلام التقليدية جرى اختراقها هي الأخرى من قبل عامة الناس، بعد أن صارت بشكلها الجديد ميسّرة بشكل أكبر بفعل ما يسمى بظاهرة الإندماج، التي تشير إلى الاستعمال الشامل للرقمية في الوسائل والتقنيات الاتصالية 
كافة.
هذا كله سمح بتشبيك الوسائل التقليدية التي كانت تعمل بشكل منفصل، فمن الناحية التقنية أتاحت عملية {التشبيك} بين الإعلام وبين الأوعية الرقمية إمكانية ربط أجهزة ووسائل إعلامية كانت تأريخياً لها قوتها في التأثير، فإذا كان التلفزيون على سبيل المثال وسيلة اشتغلت على وفق مبدأ الاتصال الجماهيري بالبث من نقطة نحو الجمهور، فان الإندماج أعاد تشكيل طبيعة التلفزيون بالكامل.
وفضلاً عن وظائفه الإعلامية المعروفة، أصبح التلفزيون يعمل فضاءً تواصلياً بين الأفراد، يتحاورون بوساطته وداخله، وهو ما دفع إلى إنتاج برامج تلفزيونية جديدة تقوم على مبدأ إحداث فضاءات للحوار والنقاش وإبداء الرأي، من منطلق أن للمتلقي العادي حق النقاش في المسائل العمومية، بالاستعانة بالأوعية الرقمية وتقاناتها وبرامجياتها غير المكلفة بالنسبة للجمهور، كما أتاح النشر الإلكتروني لفئات وجماعات خارج النخب الحاكمة إيصال أصواتها للآخرين، عبر المواقع الإلكترونية والمنتديات والمجموعات الرقمية المعروفة بمسمى {الكروبات} والحسابات الإلكترونية للسياسيين والشخصيات العامة ورجال الدين وغيرهم، فضلاً عن الأفراد العاديين ومكنتهم من أن يكونوا كتّاباً ومنتجين للمعلومات التي تحرك الرأي العام، وليسوا مستهلكين لها فقط، متجاوزين قيود وعوائق استخدام وسائل الإعلام التقليدية كلها.
 
الديمقراطية الرقمية
زادت من أهمية النشر الإلكتروني في المجال الديمقراطي من قبل العامة، استعانة كبريات الصحف والقنوات التلفزيونية الإخبارية بتلك الفضاءات الرقمية واستقطبت صنّاع محتوياتها البارزين، وكان من نتاج ذلك تعزيز وظائف الإعلام الديمقراطية في المجتمعات، وهو ما ساعد في توسيع دائرة مسؤولية الفرد في صناعة القرارات المصيرية وإدارة شؤون البلاد، كما إن نشر المعلومات وتبادل الأفكار والحوار حول القضايا المهمة من شأنه أن يثير حماس الناس للمشاركة في الحياة العامة، وأن يدفعهم للتفكير في الحلول السليمة لمشكلاتهم 
العامة.
وفي الولايات المتحدة الاميركية، توصلت دراسة (Drezner & Farrell) إلى تزايد اعتماد الصحفيين أنفسهم على مساحات التواصل الافتراضي، حتى أصبحت الاستعانة بها جزءاً من الروتين اليومي للعملية الإعلامية، ويلجأ بعض الصحفيين إليها ويعتمدون عليها كمصدر للمعلومات السياسية، وقامت بعض الصحف الأميركية بإنشاء مساحات إلكترونية خاصة بها مثل: (The National Review)، و(The American Prospect) ضمن هذا المسار، بينما قامت بعض المواقع الإخبارية على شبكة الانترنت باستضافة المواقع الإلكترونية لناشرين مؤثرين من قبيل: (Fox News , ABC News, MSNBC).
وأخذت المحتويات الرقمية على تعدد اشكالها ومضامينها تؤثر في الوظائف السياسية لوسائل الإعلام التقليدية وتسهم في ترتيب أولوياتها ووضع أجندتها الخاصة، حين بدأت تمتلك تأثيراً عميقاً وفعالاً ومباشراً على صناع القرار السياسي في العالم، اذ أوضحت نتائج احدى الدراسات أن  90 % من أعضاء الكونغرس الأميركي يحرصون على متابعة المجال الرقمي العام بشكل منتظم، ما يشير إلى دوره في التأثير على صناع 
القرار.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن استخدامات الأوعية الرقمية في الدول التي تصنّف بأنها غير ديمقراطية ساعدت في كسر الطوق على بعض الجماعات السياسية، ما دفع البعض إلى الاعتقاد بان التكنولوجيا الحديثة لوسائل الاتصال، أمست عدو النظم السياسية التي تنتهك حقوق الأفراد، لان وسائل الإعلام التقليدية كانت تدعمهم، فصار المجال الافتراضي الرقمي يعطي القوة للأفراد والجماعات التي هيأت مساحات التواصل الاجتماعي لامتلاكها القدرة في نشر أي تفسير سياسي، من دون الاضطرار للتعامل مع {حراس البوابة} التقليديين، ما جعل النشر في الشأن السياسي يؤثر في الحياة العامة للمجتمعات.
وقد أكدنا في كتابنا {الإعلام والتحوّلات العربية} الصادر عن شبكة الإعلام العراقي، أن الوظائف التي يمكن أن يؤديها الإعلام الجديد، والاستخدامات الإعلامية للأوعية الرقمية، تغيرت بشكل كبير حين أخذت تمارس ادواراً غير تلك التي كانت تؤديها في السابق بالتعبئة الحكومية والتسويق للنظرة الحكومية غير القابلة للنقاش في ادارة شؤون الدولة، وهو ما عاد بأثره في تقويض صلاحيات تلك النظم على أرض الواقع، وسبب لها حرجاً محلياً ودولياً في الكثير من الحالات ودفعها للتراجع مرات عدة عن قرارات واجراءات قوبلت برفض جماهيري حشّدت له وسائط التواصل الاجتماعي، وعاقبت العديد من كبار مسؤوليها ممن تسببوا بإيذاء لفئات محلية عقب نشر قصصهم عبر الأوعية 
الرقمية.
يرى أستاذ الفكر الاجتماعي بجامعة شيكاغو ادوارد شلس أن: {الإعلام الحر اسهم في تقويض شرعية الحكومة، فهو ينكر عليها امتيازات سلطة ذات سيادة على ممارسة التعقل في اختيار البدائل وتسويقها للمطالب، وان عدم شرعية السلطة يضعف فاعليتها، مثلما – تماماً- إن الضعف أو غير الفاعلية يقلص من الإيمان بشرعيتها، وغير فاعلية أو شرعية السلطة لهما تأثيران في الوعي السياسي الشامل، الذي كانت قد هيأت له السلطة بأوقات سابقة”، وان هذه العملية أنتجت تعزيراً للوعي الذاتي الفردي للكثيرين، لكنها لا تُجزئ المجتمع إلى كل مؤلف من أفراد منفصلين مهتمين بمصالحهم الشخصية، ويأتي الدور الفاعل للإعلام لتعزيز هذا الوعي، عن طريق الوظائف الديمقراطية التي يمكن أن يؤديها في المجتمع.
لقد أفقد التطور الرقمي واحدة من أهم الوسائل والأدوات الفاعلة للحكم السلطوي، التي كانت لها كامل السيطرة على تدفق المعلومات، وأصبحت السلطات الحكومية غير قادرة على مواجهة تأثير التكنولوجيا التي تدعم الإتصال الحر المتدفق للمعلومات، حين صار التدفق السريع للمعلومات والتعرض المتواصل للثقافات المختلفة تشكيلاً جديداً لآراء ومفاهيم وإدراكات المواطنين في المجتمعات 
المختلفة.
 
الاتصال بالسلطة
حتى هذا الوقت، يصنّف العديد من خبراء الاتصال السياسي في عالمنا العربي قنوات وصول مطالب الأفراد العاديين إلى السلطات الحاكمة، باختلاف النظم السياسية باعتماد تصنيف جابريل إية آلموند، إلى حزمتين رئيستين، تتمثل الأولى بما يطلقون عليه {قنوات الدخول السياسي} ومنها وسائل الاتصال الجماهيري والأحزاب والهيئات التشريعية والقضائية والدوائر الحكومية، فضلاً عن تظاهرات الاعتراض والإضرابات السلمية، وغيرها من المظاهر المعلنة، التي لا تحمل مضامين عنف، بينما عرّفوا الحزمة الأخرى بما أسموه {قنوات الدخول القسري} التي من بينها إضرابات المجموعات الساخطة التي تلجأ إلى العنف.
ومن وجهة النظر تلك، فان وسائل الإعلام تشكل قناة مهمة للاتصال بالسلطة من جانبين، ففضلاً عن إمكانية بيان وجهات نظر ومطالب الجماهير إلى السلطة، فان هذه الوسائل تكسب الرسائل التي تنقلها وزناً إضافياً، كما إنها يمكن أن تحشّد التأييد العاطفي والشعبي والمالي للمطالب الإنسانية أو المهمة.
لهذا وجد المختصون فيها انها وفرّت لوظيفة الاتصال بالسلطة فرصة أكبر لعرض المطالب على الملأ، لكي تصبح معروفة لدى أغلب أجزاء المجتمع، وقد شجع عرضها على ظهور مطالب جديدة، طالبت بها أجزاء من السكان، لم تكن تُطالب بأية مطالب في السابق، من باب ان الإيمان في إمكانية تحقيق مطلب ما، يشجع على إفصاح أكثر عن المطالب الأخرى، ويحث كذلك على الإلحاح بقوة أكبر على 
تلبيتها.
 
المطالب الرقمية
أخذت سبل الافصاح عن مطالب عامة الناس بالحقوق والاحتياجات مساراً مختلفاً من أية مرحلة سبقت تحت ضغط محتويات وسائط التواصل الاجتماعي وبقية الأوعية الرقمية في العراق والعالم، حين حطمّت احتكاراً طويل المدى مارسته النظم على الإعلام بالشكل التقليدي، الذي كان اداةً ضاربة لها، حتى أتت التقنية الرقمية بخريطة طريق للوصول بالمطالب إلى الجهات المعنية بها، بعد أن تثيرها قضية رأي عام..!
ومع تحقق بعض المطالب التي اثيرت قضاياها وموضوعاتها عبر تلك الوسائط، بدأت فئات مجتمعية متعددة تكون أكثر جرأة في الكشف عن مطالبها وبالطرائق ذاتها حين تكون قصصهم مثار اهتمام وتداول الجميع، وهو ما أحدث أثره في اعتماد الجمهور الوسائط الرقمية آلية يجدها الأكثر فاعلية وتأثيراً للمطالبة بالحقوق والوصول بها إلى الجهات المختصة، الامر الذي يستوجب العناية الحكومية بمحتويات تلك الوسائط، وتنظيم استخداماتها بالمجمل بتسويق الوعي وتنمية المهارات.    
*خبير التواصل الرقمي