في العام 2013 حصل الطالب عصام محمد على شهادة البكالوريوس في اللغة الانكليزية، وكان عليه أنْ يتدبر أي عمل بأسرع وقت، سواء في قطاع الدولة أو في القطاع الخاص، لأنَّ الأسرة التي تتألف من ستة أفراد، وهو أكبر الأبناء فيها، ليس لها مورد عيش سوى الراتب التقاعدي المتواضع لوالده، والذي لا يكاد يسد إيجار البيت وأجور المولدة، ولهذا كان "الولد" أيام دراسته الجامعيَّة (يتمشغل) كما يقول البغداديون، أي يعمل هنا وهناك وفي أي مكان... أما وقد تخرج في الجامعة فعلى الأمور أنْ تأخذ مجرى آخر، وعليه أنْ يضع قدماً ثابتة في الدولة، ويحظى بوظيفة، ليس فقط لأنه من الطلبة الأوائل، بل قبل ذلك لأنَّ ظروف الأسرة المعيشيَّة تقتضي ذلك.
عصام ابن محلتنا، وجميعنا يعرف أي شاب نبيل هو ومن أسرة كريمة متعففة، ولهذا كنا نتدبر له فرص عمل صغيرة على قدر المستطاع، غير أنَّ ذلك لم يكن الحل المثالي ولا البديل عن (وظيفة) براتب ثابت، وها هي الشهور تمضي، بل هي الأعوام تمر من غير بارقة أمل ولا وعد بالحصول على وظيفة، كان يقول لنا ونحن الجيران ورجال المحلة بين مصدق ومشكك ومكذب، إنهم طلبوا مرة (30) مليون دينار ومرة (27) مليوناً ومرة (45) مليوناً للحصول على وظيفة في هذه الوزارة أو تلك، وفي الأحوال جميعها لم نكن نملك إزاء وضعه سوى الحزن، ولهذا عمدنا الى تقديم العون عبر الزكاة وفطرة العيد، وأذكر أننا في العام 2017 قمنا في ما بيننا بجمع مبلغ قدره (500) ألف دينار، واتفقنا أنْ نقومَ بمثل هذه المبادرة بين شهر وشهر، وحين زرنا الأسرة وقدمنا المبلغ فوجئنا بموقف حازم من عصام ووالدته، فبقدر ما توجها بالشكر والامتنان لرجالات الطرف، بقدر ما رفضا قبول دينار واحد.
منذ تموز العام الماضي، انقطعت أخبار الشاب ولم نعد نراه في مقهى الطرف الذي كان يرتاده بين الحين والآخر، وعندما استفسرتُ عن سر غيابه، أخبروني أنه اهتدى الى عمل (ظريف) لا يخطر على بال أحد، إذ عمد الى (تخدير) كمية كبيرة من (ورد لسان الثور) البعض يسميه (ورد ماوي)- نبات من فصيلة الأعشاب الطبيَّة يُستعمل شعبياً لمعالجة حالات الانفعال والشوطه- ثم يطوف بمشروبه على مقار الأحزاب لمعالجة النواب والمسؤولين، وكان الإقبال عليه شديداً ويحصل على أكثر من (50) ألف دينار يومياً!
الحقيقة سرتني أخباره كثيراً، فقد جاءت أخيراً فرصة العمل التي انتظرها طويلاً، لولا إنني فوجئت بدخوله المقهى مع بداية العام الجديد، ولا أدري لماذا شعرت باكتئاب مفاجئ، فربما نالت منه تهمة كيديَّة أو شبهة في الاسم ولهذا سارعت إليه وسألته (ها بابا عصومي... خير إنْ شاء الله.. أشو عايف شغلك اليوم؟) أجابني منكسر الخاطر (والله عمو.. منذ بدأت قضية تشكيل الحكومة توقف عملي تماماً، ولم يعد أحد يشرب ورد لسان الثور أو يسأل عنه)، إجابة تدعو الى الحيرة، فمثل هذه القضية الشائكة تستدعي تناول المزيد من هذا المشروب، قال لي وهو يقرأ الحيرة في عيني فيما كنت أقرأ الدمع في عينيه: عمو... مسألة الحقائب الوزاريَّة لن ينفع معها حتى لو شربوا الثور نفسه!!