"أولئك الذين يبلغون ناصية السنة التاسعة والتسعين فحسب يحلمون بإطفاء الشمعة المئة...". هذا ما يهمس به إيرل ستون (كلينت إيستوود) لطليقته المُحتضرة ماري ستون (دايان ويست)، مؤكداً لها بأنّه يحبّها اليوم أكثر من الأمس "لكن ليس بأكثر من حبّيَ لك غداً...".
تلك هي لحظة الانقلاب الحقيقيّ في شخصية ستون، مُزارع الزهور الذي أجبرته المتغيّرات التكنولوجية إلى الفقر المُدقع ومصادرة منزله ومزرعته. في تلك اللحظة يُقرّر ستون أخيراً، وربّما للمرّة الأولى في حياته، الإفصاح عمّا في داخله من حب لزوجته التي هجرته، لا كراهيّة به، بل بسبب إهماله لها وللعائلة وغيابه عنهما لانشغاله الدائم بزراعة أزهاره الجميلة، التي لا تدوم لاكثر من يوم واحد بعد قطافها، "ومع ذلك فليس هنالك في الدنيا ما هو أجمل من الزهرة حين تُينع…“. على أنّ ستون يكتشف، بعد فوات الأوان، بأنّ هناك ما هو أجمل، حتى من الأزهار اليانعة: "اللحظة الجميلة التي تقضيها مع من تُحب!"، ويُقرّ لابنته إيريس (وتؤديه إبنة إيستوود آليسون) التي تُصالحه في آخر لحظة "لقد كنت زوجاً مهملاً وأباً سيئاً.. تمكّنت من شراء كلّ شيء، إلاّ الوقت، فذلك لا يُمكن شراؤه!".
وها هو كلينت إيستوود، الذي امتلك من وقته ( 89 عاماً) كلّ لحظة وملأه إنجازاً ونجاحاً وجوائز، منذ مسلسل رُعاة البقر «روهايد»، مروراً بآصرته مع المعلّم الإيطالي الكبير سيرجو ليوني وأفلام «السباغيتّي ويسترن»، وانجازاته الأميركية، ها هو يعود ما بعد تسعة أعوامٍ من إنجازه الهام «غران تورينو» ليُقدّم، وهو في حوالي التسعين من العمر (ولد في الحادي والثلاثين من ايار 1930 )، شريطه الجديد « The Mule - الساعي» الذي أخرجه وأنتجه عن سيناريو كتبه نِكْ سمينك. الذي سبق وان كتب لكلينت إيستوود نص فيلم «غران تورينتو».
ويؤدي إيستوود في الفيلم دور المتقاعد الثمانيني إيرل ستون (الشخصية مُقتبسة من قصّة ليو شارب، أكثر حمّالي المخدّرات شيخوخة في أميركا، التي صاغها سام دولنِك في كتاب). وإيرل ستون مزارع عجوز عمل في مزرعة للزهور في إلينوي، تضيق به دنيا العمل بسبب التطوّر التكنولوجي وانتشار وسائل الاتصال وتنتهي به الحال إلى العمل كساعٍ، أو بالأحرى كحمّال، لشحنات من المخدرات لعصابة مكسيكيّة لتهريب وتجارة المخدرات، لكنه سرعان ما يقع تحت مجهر الشرطي كولين باتيس (يؤديه برادلي كوبر) الذي يعود الى التعاون مع إيستوود بعد «اميركان سنايبر» (2015).
ويبدو إيرل ستون في «الساعي»، هو نفسه وولت كووالسكي في «غران تورينو»، والذي قرّر تنقية الحي الذي يعيش فيه من عصابات المراهقين العنيفين وانتهى به الأمر إلى توفير الحياة الهادئة لمجموعة من المهاجرين البسطاء الذين صاروا فريسة سهلة لأفراد تلك العصابة العنيفة. لم يكن هدف كووالسكي الدفاع عن تلك العائلة، بقدر ما كان يرغب في العيش الهادئ في الحي الذي اختاره مكاناً، فذاد عن المكان، ومن يعيش في ذلك المكان أيضاً.
ثمة خيط رفيع لكنه ليس واهيا يربط بين فيلمي "غران تورينو" و"الساعي"، اذ حاول استوود وكاتب سيناريو الفيلمين منع التواصل بين شخصيتي كووالسكي وستون، لكن هل بإمكان إيرل ستون أن يُقدم على شراء وسيلة نقل أخرى، بعد أن صادرت دائرة الضرائب مزرعته ومنزله، وصارت شاحنة «البك آپ» القديمة منزله ووسيلته الوحيدة للتحرّك؟
يأتيه الجواب من حيث لا ينتظر أو يتوقّع؛ فكما فعل منذ عقود، نسي إيرل ستون مرّة أخرى مناسبة عائلية مهمّة، هي زواج حفيدته الوحيدة جين، بالضبط كما نسي قبل إثنتي عشرة سنة يوم زفاف ابنته الوحيدة إيريس، وهو ما دفع الابنة إلى مقاطعته نهائياً وإلى الرفض في التواجد معه في أي مكان، حتى وإن كان ذلك المكان هو الحديقة التي يُحتفل فيها زفاف ابنتها الوحيدة.
يأتيه «الفرج» عبر عرض غيرُ منتظر، من قبل شابٍ مكيسكي يحضر حفل الزفاف بعد أن يكتشف أنّ السجّل الجنائي لإيرل ستون نقيٌ وخالٍ من أي جُرم ”ولم تُسجّل بحقّي حتى غرامة مرور واحدة!“، فيكلّفه بالمهمّة الخطيرة في أن يتحوّل إلى ساعٍ "بغل حمولة" لنقل المخدّرات من إلينوي إلى شيكاغو مقابل أجورٍ مُجزية وخياليّة بالنسبة لمزارع الزهور العجوز.
كاتب السيناريو والمخرج يضعان إيرل ستون أمام مواجهتين إحداهما مع عالم المرأة، ومع ثلاثة أجيال في صورة واحدة، الأم والإبنة والحفيدة، والأخرى، مع عالمٍ عنيف مُتشكّلٍ من رجال الشرطة والقانون ومهرّبي المخدّرات. ودون أن يُعلن الفيلم عن رأيه، فهو ينتصر للعالم الأول، عالم المرأة، الذي يجد فيه إيرل ستون ملاذاً حقيقيّاً، فيما تكمن جميع الأخطار في المواجهة الآخرى، أي في عالم الرجال، وفي اللحظة الوحيدة التي يتقابل فيها إيريل ستون بالصدفة مع رجل الشرطة كولين بيتس (برادلي كوبر)، يسعى مزارع الزهور العجوز إلى تعليم الشرطي بما فشل هو في تحقيقه خلال عمره: ”لا تفعل كما فعلتُ أنا؛ لا تنسَ أياً من مناسباتك العائلية…“
يقول إيستوود عن الفيلم ”كنت أرغب في الحصول على نصٍ قادرٍ على ضمّ وتقديم مآسٍ عديدة وأن يستجمع في صلبه متغيّرات أجيال مختلفة".
ثمةَ في شخصية إيرل ستون الكثير من شخصية كلينت إيستوود: الأحلام، الخيبات واليقين، وهكذا يمكن ان يكون الفيلم السابع والثلاثون من إخراجه عمله الأخير، وبمثابة الوصيّة الأخيرة لواحدٍ من أهم شخصيات السينما الأميركية.