تأثيرات رؤساء المنظمة في إدارة الملف النووي
قضايا عربية ودولية
2021/10/28
+A
-A
جواد علي كسار
منذ تأسيسها قبل نحو نصف قرن من الآن، تداعى على رئاسة منظمة الطاقة الذريَّة الإيرانية، سبعة رؤساء، ففي عام 1974م أعلن في طهران عن تكليف د. أكبر اعتماد تأسيس منظمة مختصة بالشأن النووي، وهذا ما تمّ فعلا، عندما اكتسب اعتماد لقب «مؤسس» و«أبو المشروع النووي الإيراني»، وظل في موقعه حتى عام 1979م.
بعد انتصار الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية، مرّ على قمة منظمة الطاقة الذرية خمسة رؤساء، قبل أن يستقرّ المقام بمحمد إسلامي الرئيس الحالي بديلاً لعلي أكبر صالحي، بتكليف من رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي.
هذا المقال، هو محاولة لرصد تحوّلات الملف النووي الإيراني، عبر قراءة دور رؤساء منظمة الطاقة وتأثيرهم في مسارات الملف وخياراته.
المؤسّس أكبر اعتماد
في الواقع تعود البواكير الأولى لنشاط إيران النووي، إلى عهد الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور (في المنصب: من 1953 إلى 1961م) ومشروعه الذي اشتهر، بعنوان: «الذرة من أجل السلام».
ففي ظلّ هذا المشروع أنشأت طهران محطة ذرية صغيرة لأغراض البحث العلمي، في آذار 1957م، قبل أن يطلق الشاه محمد رضا (في المنصب: من 1941 إلى 1979م) لنفسه العنان، في الحديث عن إنشاء (23) محطة ذرية، بحلول عام 2000م، لم يتحقق منها شيء على الأرض، سوى مفاعل بوشهر جنوب إيران، الذي تعاقد عليه الشاه عام 1975م مع ألمانيا، بكلفة (5ـ 6) مليارات دولار، دفعت منها إيران مقدّماً أربعة مليارات، ولم تحصد شيئاً، إذ بقي هذا المفاعل متروكاً مهملاً، بعد أن رفضت العواصم الأوروبية جميع عروض طهران لتكملته، ما اضطرّها للتعاقد مع روسيا عام 1995م، وقد ماطلت كثيراً في تنفيذه، وسوّفت حتى تمّ افتتاحه على نحوٍ جزئي عام 2011م.
في الحقيقة يُعدّ الشروع بمفاعل بوشهر هو الإنجاز الأبرز لـ»أكبر اعتماد» (معاصر، ولد: 1930م) وقد أشار في مذكراته إلى أن أبرز مشكلة واجهته، هي تأمين وقود المفاعل، بعد أن كان ذلك حكراً على أميركا والاتحاد السوفياتي.
بعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979م، ترك أكبر اعتماد إيران معه الكثير من مساعديه والعاملين معه، فتحوّلت منظمة الطاقة إلى د. فريدون سحابي (معاصر، ولد: 1937م) من مؤسّسي حركة «الحرية» بزعامة بازرگان، وشقيق القيادي فيها د. عزة الله سحابي. بيدَ أن شيئاً مهماً لم يحدث في المدّة التي أشرف فيها سحابي على منظمة الطاقة، لاضطراب الوضع العام في البلد، واتجاه العواصم الكبرى إلى إلغاء تعاقداتها مع طهران.
لكن مع ذلك، يمكن أن نقرأ الإنجاز الأهمّ لمرحلة سحابي (1979 إلى 1981م) بمبادرته للحفاظ على الشخصية الوجودية والمعنوية لمنظمة الطاقة ولو رمزياً، وسط حالة الغليان الثوري، وما صاحبها من سياسات مرتجلة، قائمة على ردود الأفعال غالباً.
رضا أمر اللهي
الرئيس الثالث لمنظمة الطاقة هو الأطول مكوثاً في موقعه، لكنه ليس الأكثر تأثيراً، فقد تبوأ مهندس الكهرباء من جامعة «لامار» الأميركية، والحائز على دكتوراه الفيزياء من جامعة باريس، اليزدي رضا أمر اللهي (معاصر، ولد: 1946م) تبوأ مقعده في قمة منظمة الطاقة لأكثر من عقد ونصف.
في عهد أمر اللهي (1981 إلى 1997م) لم يشهد الملف النووي قفزات كبيرة، وإن كان سجّل الخيوط الأولى التي ما تزال غامضة لمشروع إيران النووي، ففي عهده انهار الاتحاد السوفياتي، فبادرت إيران بتوجيه مباشر يومها من الرئيس هاشمي رفسنجاني، إلى اغتنام ما استطاعت اغتنامه من أجهزة وأدوات نووية تسرّبت إلى السوق السوداء بكثافة، من الجمهوريات التي انفكّت عن الاتحاد السوفياتي، ما عزّز رصيد إيران ودفعها بإصرار أكبر لبناء برنامجها النووي، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار المعلومات التي تفيد، بأن صاحب مشروع قنبلة باكستان النووية، عبد القدير خان (ت: 2021م) وضع في هذه البرهة من الزمان، خدماته لصالح المشروع النووي الإيراني.
في كلّ الأحوال، يعود الفضل إلى أمر اللهي في إطلاق دراسات الدكتوراه المختصّة بالهندسة الذرية والفيزياء العليا في جامعة «أمير كبير»، بعد أن كان قد أمضى هو شخصياً دورة في الهندسة الذرية في مركز البحوث الذرية في بلجيكا، وشارك بالتدريس في الجامعات الإيرانية، ما يدل على عنوان معرفي متميّز، وحماس في إشاعة العلم النووي في بلاده، بحيث لم يترك الأمر حتى حصل وزملاؤه بعد سعي حثيث، على قرار صادر عن وزارة العلوم، بافتتاح قسم الدراسات العليا في الهندسة الذرية، وهو ما تمّ أخيراً باستقبال الدورة الأولى عام 2015م، بعد أن أصبح أمر اللهي خارج مسؤولية المنظمة الذرية.
على عهده أيضاً وفي أواخره، استطاعت إيران أن تبرم اتفاقاً مع روسيا لإعادة مفاعل بوشهر إلى الحياة، بعد أن رفضت ذلك ألمانيا وفرنسا، وقبلت إسبانيا لكنها ما لبثت أن اعتذرت تحت ضغوط أميركا.
رضا آقا زادة
ثاني أكبر رئيس مكوثاً على قمة منظمة الطاقة الذرية، هو مهندس الكومبيوتر غلام رضا آقا زادة (معاصر، ولد: 1948م). المتابع للشأن الإيراني يعرف أن آقا زادة كان وزيراً للنفط (في المنصب: 1985 إلى 1997م) إبّان الحكومة الثانية لمير حسين موسوي، وعلى مدار ثماني سنوات من رئاسة هاشمي رفسنجاني.
هذا العضو الناشط في «الحزب الجمهوري الإسلامي» المجمد، تقلّب بين مواقع عدّة قبل تسنّمه وزارة النفط، فقد كان مسؤول القسم الداخلي في صحيفة «جمهورى اسلامى»، ومعاون وزير الخارجية للاستثمار والشؤون الاقتصادية، ثمّ المعاون التنفيذي لمير حسين موسوي، قبل أن يشغل عام 1997م موقع رئيس منظمة الطاقة الذرية، حتى استقالته عام 2009م.
في عهد آقا زادة أصبح الملف النووي الإيراني في قلب عاصفة التدويل، وذلك على أثر المنعطف الكبير الذي شهده هذا الملف غداة مؤتمر منظمة «مجاهدي خلق» الإيرانية المعارضة بتأريخ 14 آب 2002م، هذا المؤتمر الذي كشف فيه المعارض جعفر زادة أن الجمهورية الإسلامية قطعت شوطاً كبيراً في إنشاء موقعين نوويين في «نطنز» و»آراك»، ما أدّى بالحكومة الإيرانية على عهد الرئيس محمد خاتمي إلى الإعلان عن تجميد نشاطها النووي لمدّة سنتين، تحت ضغوط الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لكن الرئيس أحمدي نجاد الذي وصل إلى الرئاسة بعد خاتمي، كسر قرار التجميد واستأنفت إيران نشاطها النووي، ما أدّى بمجلس حكماء وكالة الذرة الدولية إلى أن يُنذر إيران عام 2006م، بأنه سيوصي بدفع ملفها النووي إلى مجلس الأمن، إن لم تبادر فوراً لإيقاف نشاطها. وهو الأمر الذي رفضه نجاد واستخفّ به كثيراً، بالأسلوب العنتري المشهور عند رؤساء بلدان العالم الثالث، وذلك عندما أطلق عبارته المشهورة؛ من أن (إيران ليس فقط لا تعبأ بقرارات مجلس الأمن، بل أن هذه القرارات ليس لها قيمة، وأنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به)!.
أسلوب العنتريات «الأحمد نجادي» الذي يذكرنا بعنتريات أسلاف له من قبل، مثل عبد الناصر ومعمر القذافي وصدام حسين، جعل إيران ضحية ستة قرارات مدمّرة صدرت عن مجلس الأمن في غضون أربع سنوات فقط (بين: 2006 و2010م) تُوّجت بما أُطلق عليه بأم القرارات، وهو القرار الذي صدر بتأريخ 9 حزيران 2010م، تحت الرقم 1929.
حصل ذلك كله؛ أقصد به التدويل ومراراته وتبعاته المدمّرة، في ظلّ رئاسة آقا زادة للطاقة الذرية، ما أدّى إلى استفحال الخلاف بينه وبين الرئيس نجاد، ومن ثمّ اختياره الانسحاب عن المشهد، عندما أعلن عن استقالته في تموز 2009م، ليحلّ محله لبرهة قصيرة علي أكبر صالحي، لكنه سرعان ما ترك الموقع عندما اختاره نجاد وزيراً للخارجية في كانون الأول عام 2010م، ليأخذ مكانه محمد أحمديان مشرفاً على الوكالة، إلى حين تمّ اختيار د. فريدون عباسي من قبل أحمدي نجاد، معاوناً لرئيس الجمهورية ورئيساً لوكالة الطاقة، وقد ظلّ في موقعه حتى نهاية رئاسة أحمدي نجاد عام 2013م، وكان أبرز واقعة في عهده الإعلان عن تشغيل المفاعل الأول في محطة بوشهر النووية، من قبل روسيا، بعد أكثر من (35) سنة من الانتظار.
علي أكبر صالحي
قد لا نبالغ إذا قلنا إن علي أكبر صالحي هو أهمّ رئيس لمنظمة الطاقة الذرية على الإطلاق، بل هو أهمّ حتى من مؤسّسها أكبر اعتماد. تكمن أهمية صالحي بتميّز كفاءاته الذاتية، وقدراته الوظيفية والإدارية المشهودة، ومهنيته العالية، وفهمه الاستثنائي للعلاقات الدولية، وصلة النووي الإيراني بالسياسة العالمية، فضلاً عن أنه شغل موقع الرئاسة لمدّة طويلة نسبياً، تقارب العشر سنوات، لكن على مدّتين منفصلتين زمنياً؛ الأولى قصيرة على عهد الرئيس نجاد، والثانية وهي الأهمّ، على عهد الرئيس حسن روحاني، بدءاً من عام 2013م حتى إقالته مؤخراً من قِبل إبراهيم رئيسي، ليحلّ محله محمد إسلامي المسؤول السابع لمنظمة الطاقة الذرية منذ
تأسيسها وللآن.
نقرأ في السجّل الشخصي لعلي أكبر صالحي المولود في مدينة كربلاء عام 1949م، أنه أكمل دراسته الجامعية الأولية في الجامعة الأميركية ببيروت، وواصل دراسته العليا في الفيزياء والهندسة الذرية في ماساتشوستس الأميركية. أصبح بعد انتصار الثورة أستاذاً للهندسة الذرية في جامعة «صنعتي شريف» بطهران ورئيساً لها بعد ذلك، وقد شغل إلى جوار ذلك منصب معاون وزير العلوم، لكنه ما لبث أن استقال وعاد للتدريس في كلية الهندسة الميكانيكية التابعة لجامعة «صنعتي شريف».
بداية عهده اختاره الرئيس محمد خاتمي شخصياً وبالاسم، أن يكون ممثلاً دائماً لإيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بيدَ أن موجة من الاعتراضات انطلقت ضدّه جاءت خليطاً من القوميين والإسلاميين القوميين الإيرانيين، بذريعة أن ولادته في كربلاء ما يؤثر في «نقاء» إيرانيته، وأن زوجته غير إيرانية، كان من بين رموز هذه الحملة ضدّه زميله السابق في رئاسة الطاقة، آقا زادة. لكن خاتمي أصرّ على خياره، رغم وجود أحد عشر مرشحاً آخر أمامه، وتمّ له ما أراد، فمثل صالحي إيران في الوكالة الدولية، خمس سنوات
(1998 إلى 2003م).
قادت هذا السياسي الإيراني المنحدر من كربلاء؛ قادته خطاه الواثقة، وقدراته المهنية العالية، وشخصيته المستقلة، إلى مواقع عليا في إيران، فبعد انتهاء مهمته في فيينا، أصبح المعاون العلمي والتربوي لمنظمة التعاون الإسلامي، في جدّة بالسعودية لمدّة أربع سنوات، ثمّ رئيساً لوكالة الطاقة الذرية الإيرانية بتكليف من الرئيس نجاد، ومشرفاً على وزارة الخارجية بعد إقالة الوزير منوشهر متقي، ووزيراً للخارجية بالأصالة بتكليف من الرئيس نجاد لأكثر من ثلاث سنوات، وعندما آلت رئاسة الجمهورية إلى حسن روحاني، اختاره معاوناً للرئيس ورئيساً لوكالة الطاقة الذرية، حتى أقاله مؤخراً إبراهيم رئيسي.
الإنجاز الأكبر الذي تفتخر به طهران، في
مشروع تخصيب الوقود النووي بنسبة 20 ٪، وتحويله إلى رقائق للطاقة لتشغيل مفاعل طهران للبحث العلمي؛ هذا الإنجاز يعود إلى صالحي، فهو من قدّم الاقتراح، وتمّ تنفيذه بنجاح تحت إشرافه.
لقد كان لصالحي دور في مقدّمات الاتفاق النووي عام 2015م، ليس من موقعه كرئيس لمنظمة الطاقة وحسب، بل بصفته عضواً بارزاً في الفريق التفاوضي، عمل تحت عنوان الخبير الفني لفريق التفاوض، وشارك بالمفاوضات الطويلة الشاقة التي دامت اثنين وعشرين شهراً، قبل أن تفضي إلى توقيع الاتفاق في حزيران 2015م، لاسيما أنه أضاف إلى خبرته المهنية، خبرة لغوية متميّزة، إذ يتقن من اللغات العربية والإنكليزية والإسبانية، فضلا عن معرفته بالفرنسية
والتركية والألمانية.
هكذا نجد أن علي أكبر صالحي يجمع على صعيد واحد تأهيلاً ذاتياً، وشخصية قوية واثقة وصلبة لا تخجل من ماضيها، ومؤهلات أكاديمية متخصّصة في الفيزياء والهندسة الذرية، ودِربة على العلوم ناشئة من التدريس الجامعي في مادّة اختصاصه، وخبرة عملية ميدانية من خلال المواقع التي شغلها، لاسيّما ترؤسه لمنظمة الطاقة الذرية، إلى جوار مواقع سياسية متميّزة رفعته إلى قمة وزارة الخارجية، ضمن مزاج رئيس قلق كأحمدي نجاد.
هذه الخصائص مجتمعة حوّلته إلى موضع ثقة لتقاطعات القوى السياسية، فقد اختاره الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي ممثلاً لإيران في الوكالة الدولية، واختاره الرئيس الأصولي القلق أحمدي نجاد رئيساً لمؤسّسة الطاقة الذرية ووزيراً للخارجية، وكان إلى جوار حسن روحاني الذي خيّره بين مناصب ثلاثة، لا مناص له من اختيار أحدها؛ الأول هو النائب التنفيذي لرئيس الجمهورية، والثاني هو وزارة العلوم، والثالث هو رئيس منظمة الطاقة الذرية، وهو الموقع الذي ارتضاه صالحي فعلاً دون المنصبين الآخرين.
مع ذلك أُقيل هذا الرجل من موقعه، لتثبت إيران من خلال هذه الإقالة أنها ما تزال دولة «عالمثالثية»، تعمل بمزاجات السياسة بعيداً عن التراكم المهني، وقد زاد من صدمة هذه الإقالة أن بديل صالحي محمد إسلامي، لم يعمل يوماً واحداً في منظمة الطاقة الذرية، وليس لاختصاصه العلمي خيط صلة بالفيزياء والهندسة الذرية، على ما سنذكر ذلك تفصيلاً في مقال مستأنف عن الفريق التفاوضي، بإذن الله العزيز.