نسيان مزمن

الصفحة الاخيرة 2021/11/02
...

حسن العاني 
ليس لها وصف آخر، سوى إنها (غريبة) تلك الظاهرة التي ترسخت جذورها في العراق منذ قيام دولته قبل مائة سنة، على الرغم من أن البلد خضع لأنواع الأنظمة، ملكية وجمهورية، وتعاقبت عليه حكومات عميلة ومحلية ووطنية ودكتاتورية وليبرالية ودينية، وحكومات توافق وشراكة واتحادية ومركزية ومحلية ..الخ، وهذه الظاهرة تتمثل باهمال المبدعين واغفالهم او نسيانهم، وهو اهمال يشمل الرجال والنساء في مجالات الابداع كافة، حتى اذا انتقلوا الى جوار ربهم، اهتزت شوارب الحكومة واستيقظ ضميرها، وراحت تغدق على المرحوم انواط الشجاعة ومعسول الكلام وتبتكر له من الألقاب الرنانة ما يستحقه ولا يستحقه، وكأنها تحاول التكفير عن ذنبها، ولو بعد فوات الأوان..
مات معروف عبد الغني الرصافي، ذلك الرمز الكبير من رموز الشعر والنضال والوطنية، وهو يعاني من الفقر والحاجة، وظل الى لحظة وفاته كريماً مرفوع الرأس ابي النفس، لم يتكسب بشعره ولم يستجد احداً، ولم يتم الالتفات اليه في حياته، ثم نرفع له تمثالاً فخماً بعد رحيله، ومات الجواهري ودجلة الخير لم يجف حبرها، بعيداً عن وطنه وأهله ودجلته، ثم رحنا نندبه ونبكيه ونقيم المهرجانات باسمه، وقبله لم يكن السياب نزيل المرض والغربة احسن حالاً، ومات من سوء التغذية والقهر والإهمال، وقائمة الذين طرزوا سماء العراق بالزهو والابداع طويلة جداً، لا تبدأ بصديقة الملاية التي ختمت حياتها شحاذة على باب الإذاعة العراقية، ولا تنتهي عند طالب القره غولي، شيخ الفنون اللحنية الذي نقل معه الى القبر اهمال الدولة القاسي، موت سيد اللحن العراقي كان مجرد خبر عابر على هذه الفضائية او تلك، وقل مثل هذا واسوأ من هذا عن فلان وفلان في مسلسل النسيان المزمن، شبيهو السياب والجواهري والقره غولي كثيرون جداً، ولا احد منهم الا وهو نجمة لامعة تضيء مسيرة العراق وتزين سماءه، ولكن مشكلتنا مستعصية، لا يراد لها أن تحل، فالمبدع العراقي لا يحصل على شهادة الابداع من الشعب ومن عطائه ومنجزه، لان السياسة، والسياسة وحدها هي صاحبة الحق في منح الشهادة واحترام المبدع وتكريمه، وهذا هو موقف السياسة من الرصافي في العهد الملكي، وحين تغيرت السياسة في العهد الجمهوري نصبنا تمثالاً للرصافي، ولكن سياسة هذا العهد بالمقابل حجبت الشهادة والتكريم عن الجواهري شاعر العرب الأكبر، ومشكلتنا اننا في بلد يصر على عدم الالتفات الى مبدعيه، وامامنا قامة أدبية شامخة اسمها عبد الرزاق المطلبي، وقامة اسمها الفنان قاسم السراج و .. و .. ومع المرض والشيخوخة والغربة نسينا مظفر النواب والريل والبنفسج، ونسينا ونسينا، وكأننا ننتظر موتهم ليقيم لهم اتحاد الادباء او نقابة الفنانين او اتحاد المؤرخين او نقابة الأطباء او  مجلس فاتحة للفقيد فلان الفلاني، اما الدولة العراقية – منذ تأسيسها – فقد تبعث من يمثلها لحضور مجلس
العزاء.