ريسان الخزعلي.. شاعرٌ جنوبيٌّ بجلباب بغدادي

منصة 2021/11/03
...

 سعد صاحب
بعض الشعراء في عمر السبعين يتوقفون عن العطاء, أو يكررون أنفسهم بشكل عشوائي, وتبدو القصيدة استنساخاً لتجارب سابقة, لكونها خالية من التجديد والابتكار والمغايرة. الشاعر المبدع ريسان الخزعلي لا يزال يطرز سجادة الإبداع بأحلى الأبر الناعمة, وأبهى المفردات والصور والأفكار, مثل حائك قديم يجيد تنسيق الألوان, ويعرف أسرار الخيوط المتشابكة.. والتطريز شعرياً عملٌ صعبٌ لا يتقنه إلا الفنان الماهر صاحب المران المستمر والخبرة الطويلة في الحب والحزن والموت والمشاكسة, وفي هندسة الأشياء المتناقضة, واكتشاف الأصباغ الجديدة المختفية في الطبيعة, لإدخالها في لوحة الوجود المطرزة بالعشق والطفولة والجمال والسلام والمحبة.
(كبرنا او بالصدر فز الحمام/ فزعت الدنيه علينه/ شامه شامه وحب شباب/ البوسه تشتلهن سوه/ او بعده ليهسه العشك بكلوبنه اويه شفافنه/ ايغني العشك تطريز).
 
حداثة
عنوان إشهاري واضح فوق غلاف الكتاب يقول: شعر شعبي عراقي حديث، وحين نقرأ الديوان نجد هذا التوصيف ينطبق على القصائد، فالشاعر لا يلح على القافية، ولا يكرر الصور المستهلكة ولا يعيد الموضوعان المملة، ولا يمانع من كتابة مقاطع نثرية بايقاع جديد، ويكثر من الإدهاش المقصود والترميز السلس المحبوب: (تطوف الروح هذا الليل متونس/ يزتها ابكل نهر روجه/ ولا شاطي انتخه ايردها/ الجسم بالغرفة ظل خشبه او عليها اعيون ما تلتم).
 
معنى
يؤكد الشاعر جماليات الحداثة الخالصة، من أجل الوصول الى قصيدة مؤثرة، على مستوى الشكل والمعنى وتفكيك الأنماط المغلقة، ويعلن مقاطعة الوظيفة التقليدية للشعر. وتبقى الفطنة هي المحرك الأساسي باختيار السلالم الموسيقية الجديدة، لقصيدة تتطلب أنْ تصبَّ بهذا النسق الحديث، أو بذاك القالب القديم، وفي هذه الحالة يقوم المبدع بمهمة الشاعر والموسيقي، ولا يمكن إهمال الوجدان الذي يحتاج الى تعبير حار يصل الى القلوب: (من حبنه/ عبر ورد الحديقه حايط الجيران/ ومن كثر المحبه/ اخيالك ابدمعي يطش الوان/ وانه ابجيسة القمصان حلمان).
 
غزل
في زمن الخراب والمأساة والهم والغربة، يقدم لنا الخزعلي باقة من الأشعار الغزليَّة تجدد فينا الحياة وتمنحنا طاقة إيجابيَّة نقاوم فيها الألم والضياع، والموت المتربص بنا في كل مكان وهي ليست مفتعلة وصدقها يتجلى بسحر الكلمة والانفعال والتأثير في المتلقي، متخذاً من المرايا موضوعاً لقصيدته الطافحة بالغرام، ولا شك أنَّ المرأة والمرآة وجهان لعملة واحدة: (وانتي لو تدرين/ جنت انه البلمرايه ايتسنط/ طيحة الشامه بديج/ ذني مو شامات وجهج/ هاي جويات الحزن من وجهي طارن/ حطن اعلى امرايتج سولفن بيه 
عليج).
 
نصفان
ينقسم الخزعلي الى نصفين، نصف هناك في الجنوب يمشي مع الماء والطير والهور والمشحوف والبستان، عائداً بذاكرته الى زمن البراءة الباسم، حيث الصبا والفتوة والمراهقة السعيدة، وحلم الفتى بالثياب الملونة والعطور والضفائر الطويلة، وما وراء الشبابيك من النسوة الفاتنات: (تطوف الروح/ مرت ع المحله اتعد شبابيج العصر/ شباج و الثاني/ لكيت الكحل يومي ابصفكه للتايه/ لكيت امن المشط ثلمه/ واثر كصة الكذله اكتابه سومرية/ او خرزه نكاط المسج).
ونصف هنا في بغداد يتطاول تحت نصب الحرية الشاهق، أو يسير في مكتبات شارع السعدون بحثاً عن المعرفة، التي رافقته من فورة الانطلاق الى الوقت الحاضر، منذ بداية المغامرة حتى نهاية العمر والاندفاع صوب الارتقاء بالشعوب نفس الاندفاع: (تتساوه المنايه ابدورة الساحة/ ولا من كال كون انه ولا انته/ ذكرى انطك صور كل يوم/ تتنضد ارفوف ارفوف).
 
اختزال
قصيدة الشاعر قصيرة مكثفة الى حد الاختزال، مركزة على ما هو شعري فقط، وهاملة لكل إطالة بلا فائدة، والشيء الزائد عادة ما يسبب الأضرار، وحتى السرد ينمو بلا ترهل ولا امتدادات قسرية لا موجب لها بلغة كاشفة لكل غموض وصافية مثل زرقة السماء في يوم بهيج: (المري ما شالت حلاته صارت اكزاز/ النهر علك امرايه الشوفته/ والماي هوه الفاز/ واليكدر يجيس الروح بمرايه/ اصابيعه لميض الماز).
 
اقتصاد
الاقتصاد واضح في الكلمات، وبمفردات قليلة تمكن من بناء عوالمه الخاصَّة، وذلك باستحضار الذكريات القديمة التي تحيا بداخله ابداً، ويأبى استبدالها بكل ذكرى جديدة، مهما كانت قيمتها كبيرة، و المتفحص بشكل جيد يرى قلة الإشارة الى أجواء المدينة إلا بشكل ضئيل، والحصة الأكبر لأجواء الريف، وكأنَّ الشاعر يرفض الاقتلاع من جنوبه الطاهر، وظل متمسكاً بتلك الأرض الطيبة: ( تطوف الروح متعنيه الجرف/ واخيوط النعاس ابعين حلوه تغسل الماعون/ فوك المي/ تطش اخدودها امرايه على امرايه/ واخيال الرمش يستر صدر مكشوف).
 
اختيار
لم تنطفئ جذوة الحماس عند الشاعر، فهو يكتب وينشر ويطبع الكتب بحرص وبجدية واندفاع، ويواصل النقاش ويطرح الآراء ويتفق ويتقاطع ويأخذ المشورة من أصحاب الرأي السديد، ويقدم أفضل ما لديه الى قارئ ناضج، ويصرُّ على الاختيار الدقيق للعنوان والفكرة وتوزيع الأبيات، والتقطيع المدروس والاهتمام بالإشارات الدالة، وقصارى ما يريد الاختلاف الجدي المبني على أسسٍ صحيحة، في اللغة والأسلوب وتركيب العبارة وتشظي الحروف: (ادريني/ ادريني بالطوفان غركان/ وادريني / ادريني انه العطشان/ بس ماي اليواليم عطش هاي الروح/ اكطره امن الحجر واهديه للعطشان).
 
حواس
أبدل الخزعلي عمل الحواس بالكامل، وشاكس العلم بالتراكيب الشعرية الحديثة، ولا غرابة إذا كانت الأصابع ترى وتتذوق الطعم اللذيذ، فالشاعر يحق له يفعل ما يشاء بالأسماع والأبصار: (ليش اجذب/ والاصابع بالزبيب الطايح ابكتر المخده/ اتسودنت كامت تشوف/ داخت امن الضوك/ صفكت وازغر اصبع/ مسح طوله ابثوبي والجيب 
انترس).
المعطيات تختلف مدلولاتها في القصيدة الناجحة، فالنظر تحول من العين الى القلب، والسمع من الاذن الى حاسة أخرى، والعالم البصري انتقل الى الشم، والقول أصبح من خاصية الروح، وتداخلت الألوان في عرس من الأنغام المتداخلة، من شدة الرؤية الداخلية وكثافة التوتر الخلاق: (بعد مامش همس جدميك/ كبل الشفه يندهني/ ولا رفة الثوب اتطير بيه اوخصرك الجنحان/ سنه وصوتك على الموبايل ايلون صور/ اسمعها بعيوني/ واشوفك بالكلب يا جنة 
البستان).
 
مخاطرة
حين يكون العنوان كلمة واحدة، فهي مجازفة ومخاطرة وجسارة من نوع مختلف، وخطوة واثقة قد تؤدي الى الفشل أو النجاح، وهي لعبة تحتاج الى بعض التحدي والثقافة والاطلاع، ومحاولة شجاعة لإثبات قوة العنوانات القصيرة جداً ووقوفها كالند للعناوين المتوسطة والطويلة، وكانت التسمية متطابقة مع المتون، وهناك القليل من المجاميع ينطبق عليها هذا التوصيف، على سبيل المثال (تقاسيم) شاكر السماوي و( قناطر) جودت التميمي و( بيرق) كاظم الرويعي و(معاضد) كريم العماري و(مليت) جمعة 
الحلفي.