حاجة المحافظين الأوروبيين الى طريق جديدة

بانوراما 2021/11/07
...

 كاترين بينهولد
 ترجمة: خالد قاسم
كان المستشار النمساوي سيباستيان كورز شابا وبارعا في مواقع التواصل الاجتماعي ولم يخشَ الاستعارة من سياسات الشعبويين، لكن بعد سقوطه يرى البعض {إنهيار القصة الجديدة}للمحافظين الأوروبيين. عندما تولى كورز مستشارية النمسا للمرة الأولى استيقظت أوروبا بأكملها، وكان في الحادية والثلاثين من العمر وقلب حظوظ حزبه المحافظ المريض وصار بين عشية وضحاها قدوة لقادة يمين الوسط في دول أخرى من القارة.
لكن كورز أجبر مؤخرا على الاستقالة وسط تحقيق جنائي بادّعاءات استغلاله المال العام للتلاعب باستطلاعات الرأي ودفعه أموالا لإحدى صحف التابلويد مقابل تغطية إعلامية ايجابية له. ويعد سقوطه حالة فريدة بالنسبة للنمسا لكن قد تكون له أصداء بمختلف مناطق أوروبا.
تأتي هذه الفضيحة في الوقت الذي يبدو المشهد السياسي الأوروبي بغاية التشظي وخسارة الأحزاب التقليدية القوية سابقا في يسار الوسط ويمين الوسط أمام مجموعة أحزاب جديدة مثل المتطرفين.
تبنى كورز لغة معادية للمهاجرين لصالح اليمين المتشدد الصاعد وأعاد تصميم حزب الشعب الرصين ليصبح حركة سياسية جذبت مئات آلاف المؤيدين الجدد. 
لكن الادّعاءات الأخيرة ضده والأدلة الكثيرة المنشورة تظهر أن ستراتيجية الاتصال التي أكسبته أصوات المحافظين هي نفسها {غير منسجمة للغاية} في أحسن الأحوال وغير قانونية بأسوأ الأوصاف كما يقول توماس هوفر مراقب السياسات الأوروبية والمستشار السياسي المستقل في 
فيينا.
عانت أحزاب اليمين الوسط بمختلف دول أوروبا لتعيد ابتكار نفسها، وانجذبت أحيانا لإغراء التمسك أكثر بالتيار اليميني. 
ففي الجارة ألمانيا تكبد الحزب الديمقراطي المسيحي خسارة كبيرة في الانتخابات الأخيرة وهي الأسوأ بتاريخه، بعد أن حكم البلاد 52 سنة من مجموع 72 سنة بعد الحرب العالمية الثانية.
 
ظاهرة بنيويَّة
أما فرنسا، حيث كان خمسة من مجموعة ثمانية رؤساء منذ بدء الجمهورية الخامسة عام 1958 من المحافظين، فلم يكسب يمين الوسط التقليدي أية انتخابات وطنية منذ 2007. وفي ايطاليا شارك الديمقراطيون المسيحيون بحكم البلاد لنصف قرن تقريبا بعد الحرب العالمية الثانية، لكن اليمين السياسي هناك ازداد تطرفا وانقساما خلال العقدين الأخيرين.
أحد الأمثلة الناجحة القليلة لزعماء يمين الوسط في غرب أوروبا هو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ولم يكتفِ بتبني الخطاب القومي الشعبوي المعادي للهجرة بل يشاطر الشعبويين علاقتهم التكافلية القوية مع صحف التابلويد.
يقول بعض المحللين إن الأحداث الأخيرة في النمسا تظهر عدم قابلية ستراتيجية كورز السياسية على التطبيق في المدى الطويل لإحياء التيار المحافظ الوسطي. ويذكر البروفيسور تيموثي غارتون أستاذ التاريخ الأوروبي بجامعة أوكسفورد أن تراجع الأحزاب التقليدية على جانبي اليسار واليمين هو تراجع بنيوي، وعلى الأرجح لا يمكن ايقافه.
كشفت الانتخابات بعموم دول أوروبا مجتمعا أكثر انقساما، ويتحدى التوصيف السياسي التقليدي. ومالت الدول الأوروبية طيلة معظم فترة ما بعد الحرب الى امتلاك حزب كبير في يسار الوسط وآخر كبير في يمين الوسط، إذ أيدت أحزاب يسار الوسط الطبقة العاملة المنظمة بنقابات عمالية قوية، أما يمين الوسط فكسب طيفا واسعا من ناخبي الطبقتين المتوسطة والعليا، بدءا من المتشددين المحافظين الى أصحاب الشركات الرأسماليين، وكان طبيعيا حصول أحدهما على 40 بالمئة من الأصوات.
خسرت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية تلك المكانة قبل فترة من الزمن، بسبب انحسار عضوية النقابات وتخلي أجزاء من ناخبي الطبقة العاملة التقليدية عن يسار الوسط، لذلك تراجعت نسبتها من التصويت منذ بداية الألفية الحالية.
اذا كانت أزمة الديمقراطية الاشتراكية موضوعا مألوفا طيلة العقد الماضي، فإن أزمة المحافظين حاليا كبيرة جدا. مع ذلك، حتى اذا انحسرت الأحزاب المحافظة القديمة فالكثير من سياساتها تبقى مهيمنة داخل أوروبا كما يشير محللون.
يقول المستشار السياسي دومينيك مويسي: {إذا نظرت الى ألمانيا وفرنسا أو ايطاليا فلم يكسب محافظو يمين الوسط التقليديون الانتخابات أو يتواجدون في السلطة، لكن السياسات المطبقة تتبع ذلك الاتجاه}. ففي فرنسا غير الرئيس إيمانويل ماكرون النظام الحزبي عندما فاز بانتخابات الرئاسة، لكن فكر حرية السوق المؤيد لأوروبا وكان محسوبا على يسار الوسط صار ملتصقا باليمين.
 
تقسيم عتيق
من جانبه لا ينتمي رئيس وزراء ايطاليا ماريو دراغي لأي حزب، لكن الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي يعد من تيار الوسط. وحتى في ألمانيا، حيث فاز الديمقراطيون الاشتراكيون بفارق ضئيل في الانتخابات الأخيرة، كان مرشح الحزب لمنصب المستشار أولاف شولتز وزير مالية ميركل وهو أكثر ارتباطا 
بحكومتها منتهية الولاية من حزبه.
يضيف مويسي: {التقسيم الواضح بين اليسار واليمين الذي هيمن على المشهد السياسي الأوروبي لم يعد واضحا ومطبقا بشكل صحيح. اليمين المتطرف أكثر تطرفا، أما يمين الوسط فينتقل أكثر نحو الوسطية، واليسار التقليدي إما اندثر كليا كما في فرنسا أو يصارع من أجل النجاة مع الخضر}.
يصعب القول على وجه الدقة ما تعنيه استقالة كورز بعد تهديد شركائه في التحالف حزب الخضر بالتصويت على حجب الثقة بسبب الاتهامات الحالية، لكنه استمر بزعامة حزبه وعضوية البرلمان.
يتوقع البعض أن كورز سيبقى حاملا مقاليد السلطة حتى بعد تولي خليفته وحليفه وزير الخارجية ألكساندر شالنبيرغ منصب المستشار. ويعد كورز أقل تمثيلا للتيار المحافظ التقليدي وأكثر انسجاما مع الانتهازية السياسية المرتبطة بجيل جديد من الجناح اليميني التي تطورت في أوروبا ضمن الفضاء بين يمين الوسط القديم والأحزاب اليمينية المتشددة.