غفران حداد
بداية الصباح لا يحلو بدون فنجان قهوة، برفقة تصفح الصحف الورقية والإلكترونية، سواء كانت المحلية أو العربية، وفيروز تستمر بالغناء بفواصل غنائية ونحن نستمع لبرامج الراديو الصباحية، يأتينا عبر الأثير صوت مقدمة البرنامج وهي تتحدث عن التفاؤل والطاقات الإيجابية التي يجب أن نتحلى بها بداية كل نهار جديد ثم تغوص في معاناة الأم اللبنانية مع بدء العام الدراسي الجديد بين المخاوف من جائحة كورونا تارة وغلاء الكتب والقرطاسية تارة أخرى، لتنقطع شهيتي عن متابعة حديث مقدمة البرامج بسبب مخارج حروفها التي لا تغتفر، جعلتني أختنق برشفة قهوة صغيرة وغيمة دخان سيجارتي الأصغر، تقول وبتكرار وإصرار «في مدارسنا عنا نقص بالصبورات»، ماذا؟ السبورة تلفظ بالسين وليس الصاد؟.
هجرت الراديو لبعض الوقت وعاودت فتحه بعد ساعة ونصف مع فقرة نجم الصباح وكانت تحاوره ذات مقدمة البرامج ورغم إعجابي بالضيف لكني هجرت الراديو الى غير رجعة، فالمقدمة تسأل الفنان وهي من تجيب، لقد عكرت صفو صباحي بمن هم دخلاء على العمل الإذاعي، فالبعض يرى نفسه خبيراً ويتعالى على وجود ضيفه أو أنَّه يبالغ في فخامة حروفه وهو يحاور المستمعين البسطاء من ربات المنازل والعمال والكسبة، تذكرت الإعلامي الراحل حكمت وهبي، وهو يطلّ على مستمعيه كل صباح بلهجته البيضاء بين اللغة العربية الفصحى والعامية من إذاعة مونت كارلو الدّوليَّة «صباح الخير، صباح الحب، صباح السلام الناس لكل الناس مع الكلمة، مع الأغنية...»، وحديثه الشهيّ الذي لا يُملّ ومخارج حروفه السليمة وخامة صوته المحفورة في القلب والأذن.
لطالما شعرت وعلى مدى سنين طويلة أنَّ الراديو في بيتنا أحد أفراد الأسرة وأنه من دمٍ ولحم كانت أمي تحضر القهوة بالهيل مع بداية كل صباح جديد برفقة الراديو وإدمانها لمتابعة برامج إذاعة بغداد ومشاركتها أحياناً في فقرات برنامج «ستديو عشرة»، كان أسلوب الإذاعية المخضرمة أمل المدرس يحلو لها وتعجبها ثقافتها المتنوعة وهي تحاور بمستويات مختلفة مع المثقف، ربة المنزل، سائق الأجرة ومخارج حروف سليمة غير متصنعة، ليأخذ الراديو بعدها جرعة حنان إضافيَّة من أحضان أبي وهو يفتش عن أغاني أم كلثوم ويناولها عدة مناديل لتختار الست أحدها لحفلة ذلك اليوم ويكون أبي سعيداً أكثر لو تكن حماته ضيفة عليه في ذلك النهار لكيلا يسمع جملتها الشهيرة والمتكررة «أول مرة أشوف أحد يسمع أغاني أم كلثوم بعز الظهرية».
أما في الليل فيكون الراديو من حصة أخي المراهق العاشق وهو يستمع لبرنامج «أوراق الليل» من إذاعة بغداد والهاتف الأرضي قرب وسادته حتى الصباح.
هكذا كان تعلقنا بالراديو وبأصوات المذيعين والمذيعات ومع برامجه المحليَّة والعربيَّة.
نعم ما زال للراديو مكانته وهيبته لدى المستمعين، في كل مكان وزمان رغم سطوة الثورة الرقمية من وجود الشبكة العنكبوتية وتطبيقات وبرامج التواصل الاجتماعي المختلفة، لكن تعلّق المستمع العربي اليوم بالراديو لا يكون عبر وصلة الأغاني المنوعة أو نشرات الأخبار بل من خلال الإذاعيين الذين يقدمون هذه البرامج، فأين الإذاعي/ة، الناجح اليوم مما كانوا يعملون في الإذاعات بالأمس؟
كثيرون أصبح لديهم حب دخول العمل الإعلامي لأجل الشهرة والمال وأصبحت مهنة الإعلام لمن لا مهنة له، ربما في العمل التلفزيوني يكون شكل وأناقة مقدم/ة البرنامج تغطّي على بعض عيوب وثغرات ثقافته/ها، خصوصاً أنَّ المشاهد العربي اليوم أصبحت لديه الصورة البصريَّة أهم من المضمون، لكن في العمل الاذاعي، أليس من واجب المسؤولين وأصحاب القرار قبل الموافقة على اختيار من يعمل في تقديم البرامج الإذاعية، أنْ يتمتع بموهبة حقيقيَّة ويحسن الإلقاء ويمتلك صوتاً جهورياً ومخارج حروف واضحة، أليس من المفروض أنْ يكون الإذاعي/ة على إتقان بقواعد اللغة العربية إتقاناً تاماً، خصوصاً أنَّ اللغة العربية السليمة هي من أهم أولويات عمل المذيع/ة، وأنْ يكون سريع البديهة، في تلافي الأخطاء التي قد تحصل له فجأة كفقدان النص الذي أعده لتقديم البرنامج الإذاعي، أو ملء وقت لحضور ضيف اعتذر عن المجيء بآخر لحظة، وأنْ يكون تلقائياً غير متصنّعٍ في تفخيم الخروف ولا يغتر على الناس أو على زملائه مهما ارتفعت مكانته ومناصبه؟
هكذا تعلمنا من نظريات وتطبيقات دراستنا الإعلامية في الجامعة.
شكراً للزميلة الإذاعية اللبنانيَّة التي تلفظ السين صاداً والتي حيّتني ذات مرة بلفظ حرف الراء غين حين ذكرت اسمي عبر الهواء فكانت أخطاؤها وعسرة مخارج حروفها سبباً في كتابة هذا المقال، وصباح الخير، أعزائي قراء جريدة الصباح، نهاركم سعيد مع كاسة شاي أو فنجان قهوة بسكر
زيادة.