معاناة بيروت.. «نقطة حبر في كوب ماء» وما زلنا نحبها

منصة 2021/11/30
...

 غفران حداد
من يسير في شوارع بيروت اليوم، يلاحظ تقاسيم الكهولة في وجوه الشباب العاطلين عن العمل، أطفال كثر يلهون في مفارق الحي هنا وهناك وقت الدوام الرسمي للمدارس، فلا قدرة لأولياء أمورهم على دفع أقساط المدارس أو دفع تكاليف القرطاسية والكتب وأجرة التنقل، مسنون ومسنات يجلسون أمام عتبات منازلهم في انتظار وعود بمساعدات الجمعيات في ترميم الجدران، التي اصبحت بلا نوافذ من بعد انفجار المرفأ في الرابع من آب.
 
 الارتفاع المتزايد لأسعار البضائع والدواء والغذاء بعد انهيار الليرة مقابل سعر صرف الدولار، وأينما يمشي سيسمع مواء القطط الاليفة بعد أن تخلى أصحابها عنها، فلا قدرة لديهم على اشباع اطفالهم، فكيف الحال في تقديم وجبة طعام واحدة على الأقل لإطعام قططهم في المنازل أو للقطط المشردة في الحي. بيروت التي ما زلنا نحبها رغم أنها لم تعد الملاذ الآمن لأبنائها الذين يفكرون بالهجرة، بيروت اليوم تسير على طريق المجاعة، فحتى «لحم الفقراء» العدس قد تجاوز الكيلو منه الثلاثون ألفا، وأصبحن الأمهات في بيروت متذمرات من الأوضاع المعيشية فيها وهن لا يستطعن تأمين وجبة حبوب رخيصة من العدس لأطفالهن، وأصبحن يسخرن من غلائه «والله أجاك عزك يا عدس، مين يصدق يصير فينا هيك».
 
المدينة التي لا تنام
تمر الأيام بنا والغلاء يرتفع وربما سنشتهي شوربة العدس ونفتقد هذا الطبق على موائدنا الشتوية خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، وقد نفتقده على المائدة الرمضانية أيضا للعام المقبل اذا بقيّ الغلاء بهذا الارتفاع، فالفقر دخل بيوت البيروتيين والمغتربين من دون استئذان، والمعاشات ما زالت تدفع بالليرة تفقد قيمتها يوما بعد يوم. لكن أغلب الناس هنا ما زالوا متمسكين بالعيش في بيروت ومازالوا يعشقون هذه المدينة التي كانت لا تنام. فقبل عامين فقط كانت هنالك حياة في هذه المدينة التي يحلو فيها اللقاء والسهر بين مقاهي ومطاعم وحانات شارع الحمرا، بدارو ومار مخايل- الجميزة. يبدأ الشباب حياتهم في شارع وينتهي بآخر. في صباح كل يوم سبت كان الشباب يستعدون لغسل سياراتهم من الأتربة العالقة عليها، استعداداً للسهر والأحد عطلة الاسبوع في بيروت، واذا كان المصروف قليلا في الحصول يبتكر السهر والرقص والمرح بمساحات بديلة من العزف والموسيقى على خط كورنيش البحر.
 
الغلاء وجائحة كوونا
 الرفاهية والمرح موجودان في كل مكان، خصوصاً في ليالي الصيف ولكن اليوم تغيرت معالم الحياة وأصبحت بيروت مدينة اشباح في ظل الغلاء وجائحة كورونا فلا سهر ولا غناء أو مرح.
أصبحنا نفتش عن الخبز والعِلم والمسرح وكلها  مفقودة في بيروت، فالفنان اللبناني اليوم قام بتعليق نشاطاته المسرحية باستثناء الدراما، التي لم نعد نشاهد منها جميع ما يعرض بسبب الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي، ومعظم المواطنين هنا ألغوا اشتراكاتهم من أصحاب المولدات الأهلية، بعد الارتفاع الجنوني لسعر الأمبير الواحد، لذا نعيش هنا على تقطير الكهرباء الوطنية ساعة صباحاً وساعة مساء، والدولة هنا تتحدث دوما عن خطة إنقاذ البلاد، فأين هيّ الخطط المنفذة على أرض الواقع والدولار يواصل تحليقه من ناحية واستمرار اختفاء المساعدات من الدول الصديقة من الخارج من ناحية أخرى.
 
«اذا فاتك الضاني عليك بالحمصاني»
على الرغم من سعي الطبقة الوسطى عبر تغريدات وبوستات الفضاء الأزرق للمشاركة في النزول إلى الشارع، من أجل كسرة خبز وحليب لأطفالنا، لكن الحكومة لا تحرّكُ ساكناً لتغيير الواقع بعد أن أصبح أقصى طموحاتنا أن تحصل على الدواء بسعرٍ مدعوم، وتظل الناس قادرة على أن تأكل وتشرب وتدفع الايجار، ولكن رقعة الفقر تكبر مثل نقطة حبر في كوب ماء، وحتى الأمثال الشعبية التي كنا نسمعها من جداتنا وأمهاتنا عن التدبير والتقشّف فقدت مغزاها، فالمثل القائل «اذا فاتك الضاني عليك بالحمصاني»، أي تستغني عن اللحم بأكل الحمص ولكن حبوب البقوليات جميعها لم تعد رخيصة وكيلو الحمص تجاوز سعره الاربعين ألفا، وحتى الأطباق الشعبية التي يتناولها العمال والكسبة من الطعمية والفول لم تعد وجبات شعبية ورخيصة، بل أصبحت من استطاع إليها سبيلا، أما المعونة الشتوية التي اعتدنها على تحضيرها في فصل الخريف فقد استغنينا عنها، فالطبقى الوسطى لا تجرؤ على شراء الكرز والمشمش لصنع المرئيات لفطور الشتاء وكيلو الفاكهة منها يتجاوز العشرين ألف ليرة.
 
الأثرياء وحدهم الرابحون
 الأسعار في ارتفاع غير منطقي وأثرياء الحرب وحدهم الرابحون في أزمنة الجوع، التي مرت وتمر على هذه البلاد، وبعد كل هذا ما زلنا نحبّ بيروت ومتمسكين بخيوط الشمس، التي تتلألأ كل يوم من وراء البحار، ما زلنا نأمل أن غدا أجمل من اليوم ونحلم أن تكون بورصة السكر والليمون والخبز قد انخفضت، وأن الكهرباء الوطنية سيشع ضياؤها في عتمة منازلنا. شارف العام على الانتهاء وينتظر الناس اليوم لاستماع تنبؤات العرّافين، رغم أن مصداقية العرّافين في لبنان لم تثبت مصداقيتها بعد، ولكن الجميع ينتظر وعودا بالخلاص الذي لم يأت ابداً، ولكن ثقافة علم الفلك عشقها اللبنانيون وأصبحت جزءا من ثقافة المجتمع رغما عنهم، على الرغم من أن هذه المهنة لا تعود للحضارة اللبنانية، بل يعود تاريخ الفلك إلى ما قبل نحو 2400 سنة في بابل ولكنها أصبحت ملاذنا الآمن، لعل وعسى تنبئنا العرّافة بأن الاوقات العصيبة التي تمرُّ بها بيروت وبقية مدننا في طريقها إلى الزوال، وان عشقنا إلى بيروت الذي ما زال يتوغل فينا لن يخذلنا يوما.