ما كان... لم يكن !

ثقافة 2019/03/09
...


ياسين طه حافظ
 
ما كان لي ميل للكتابة في هذا الموضوع، أعني موضوع فرط الكتابة الأدبية واستسهالها مما جعلنا نواجه مداً من الكتابات "الشعرية" والسردية، وكأن ملعب اطفال افتُتح، فتراكض الأولاد والبنات الى اراجيحه ومتزلقاته ومتحركاته ... واحدٌ يمتطي آلة صغيرة مصبوغة بشكل حصان ولكنها ليست فرساً ولا جواداً ولا هو فارسٌ ولا فروسية ولا ميدان.

المهم ان مسؤول الصفحة اثار الموضوع وأراد كتابة رأي فيه. فلم أشأ أكتب رأياً مباشراً ولكن يمكن ان أقول ما أرى عبر حديث مريح لا ذم فيه ولا استهانة ولا تقليل شأن. 
أبدأ بنفسي. أذكر أني في الخامس الابتدائي كتبت ابياتاً شعرية وظننتها مماثلة، وربما أفضل من النصوص التي في كتاب القراءة. وفي الأول المتوسط تنطعت أكثر فقلت أنا أكتب شعراً احسن من المتنبي. وأريتهم ابياتا كتبتها ثم أريتها للمدرس. فأجابني بعد قراءتها هي جيدة ولكن ليست افضل من المتنبي. ستعرف أنت في المستقبل لماذا! 
الآن عرفت لماذا. كانت لغة مرصوفة وكلاماً موزوناً لكن لا جديد فيه ولا معنى ولا إشارة لما يستحق ويهمنا أن يشار إليه. الآن فهمت معنى البلاغة والمتانة والصياغة وجمالها وموسيقى الحرف والتجربة والفلسفة وراء الكلام. عرفت ان المفردة في الشعر هي لفظة متوافرة للجميع ولكنها في كتابتي تحمل بعضاً مني وتنتمي الى روحي ومدخراتي. 
أيضاً الآن عرفت لكي يكون النص مهماً ومحترماً، يجب ان تكون وراءه ثقافة وأن يكون للكاتب موقف وفهم أو رؤية للحياة والناس والتاريخ.
بلا ثقافة وفكر وبلا خبرات انسانية لن يكون النص الا ألفاظاً ولن يكون الا شاحباً فقيراً ولن يكون الا اعتيادياً. وها نحن اليوم يحيط بنا طوفان من "الاعتيادي" واكوام  الالفاظ والتعابير، باشكال شتى يجمعها افتقاد المعنى والاهمية بل والاحترام! 
الكتابة ليست ان تمسك القلم وتضخ عواطف بائسة وتحسرات او تهريجا لفظياً. لابد من كتابة ما يعني شيئاً مهماً. وما يرسم جواً ويقدم موضوعاً وراءه فكر. أما ان نكتب موضوعاً لا فكر ورائه فهذا يعني ثوباً وفراغ. والمعنى ان تيسر سيشع أكثر وسيعظم جماله في الكتابة الجميلة القادرة على التعبير عنه.
الشكوى من ابتذال الكتب الادبية، هي شكوى من الكتب متواضعة القيمة الادبية. الاعمال المهمة يعاد طبعها مرات. ليس مجاناً هذا وبلا سبب. هي أدب حقيقي تغذيه ثقافة جيدة وفكر وخبرات انسانية ومهارات تعبير. نحن نفيد منهم ونقلدهم وهم وراء تطورنا الأدبي. "الموهبة" وحدها لا تكفي. كما ان القراءات الادبية لا تكفي. الكاتب، الشاعر يحتاج الى ان يفهم ما يجري حوله وتكون له ثقافته الخاصة في التاريخ الوطني والانساني ويحتاج لأن يطلع على ما تحقق في التنظير والدراسات الفكرية. ايضاً ان يكون انساناً حياً. أي ان يعيش حياتاً ليكون على بيّنة من تفاصيل الحياة وذا خبرة وفهم للناس. اما ان تكتب خواطر، طرائف ومفارقات أو انشاءً تجميعياً فهو كلام لا رؤية وراءه ولا خصب ثقافي يسنده. مثل هذا، وبأي شكل كُتِب، يظلُ كلاماً ويظلُ لا أهمية ولا قيمة له الا الارتياح الآني الذي لا يعني في النهاية شيئاً. 
قد يتراءى لبعض من شعرائنا اليوم انه يكتب مثل أو أحسن من فلان وفلان من الشعراء والكتاب. ليكن له ذلك حتى ينتبه الى ما انتبهت أنا إليه. 
استهان شاعرٌ صديق أمامي باشعار عبد الوهاب البياتي قلت له : هذا الشعر تشرّب الانكسارات والخيبات الثورية في بقاع من الارض شتى. فرسمت تلك في كتابة شعره حزناً شفيفاً التقى بحزننا، فأراحنا هذا الاسى الانساني المشترك، يحس به اكثر من عاش تجربة الانكسار ...
وبلغة موجزة وقاموس محدود وبلا اسراف في العواطف، قدم شعراً محترماً ورسم حداثة أو تطوراً أو امتيازاً. فهو مثلاً، بكل ايجاز، يقول: 
ابحرت السفنْ
ما كان لم يكنْ!
 لو لم نمتلك شعور الاسف والخسارة وضياع المسعى، ما شعرنا بالحزن والمرارة وراء ست كلمات ربما تعجز عما قال ست صفحات لكاتب يرصف ألفاظاً وتعابير..
اقرأ أحياناً لشعراء مكثرين قصائد، عفوا أسميها القصائد، فهي ليست سوى اهراق الفاظ وتعابير ومن أساليب شتى. قد تكون لطيفة أو سليمة اللغة ولكنها ان كانت حباً، فهي غزل بائس فقير ومتخلف. هي ليست قصائد حب وهي تهين الحبيبة بتشوق ذكوري رخيص، بعيداً عن جوهرها الإنساني وعما في الحياة. فلاهي رمز ولا أسى لضياع جمال ومعنى. هي تجميعات تعابير وانتقاءات لُقطَ تبقى مشتتة وقد
 اجتمعت!
لكن، لا بأس. في كل الأزمنة مثل هذا ومثل هؤلاء. حركة الزمن تبقي من بعد خلاصات، تُبقي أسماء معدودة والرياح تتكفل بالباقي. ليس هذا بجديد. في رسالة لـ رامبو يخاطب بول دميني: "ثمة متأدبون، نظامون ... كل ما هنالك هو نثر مقفى، لعب، ترهل ومجد اجيال من البلهاء لا تحصى ولا تعد. راسين هو القوي النقي ... بعد راسين تزداد اللعبة رداءة ولقد دامت ألف عام ...
فدعوا لمن يكتبون اليوم فرصة التجريب وليمروا بالطريق، فالوصول ليس من حصة الجميع. لنحتمل ما نرى. يوماً رآنا بعضهم مثلما نرى نحن اليوم هذا العديد الذي يلقي علينا كراريس مزعجة بانتظار الرضا.. 
ختاماً سنرى يوماً ان الكثير ما كان، لم يكن!