مقطعان!

الصفحة الاخيرة 2019/03/10
...

حسن العاني 
•. الجمالي: منذ انتقلت مجلة "الف باء"، من مكانها القديم في منطقة (الكسرة) الى مقرها الجديد في الطبقة الخامسة من مبنى وزارة الثقافة والإعلام، في جانب الكرخ مقابل فندق (المنصور ميليا)، أواخر العقد الثمانيني من القرن الماضي على ما أذكر، لم يحصل أنْ مرّ يوم من دون أنْ يقوم أستاذي الكبير وصديقي الرائع، الفنان يوسف العاني بزيارة الى المجلة والتجول في معظم أقسامها، ويشرفني بزيارة خاصة قد تمتد الى أكثر من ساعة، وآية ذلك إنَّ بيته لا يبعد عن المجلة أكثر من مئة متر. 
صحيح ان بيني وبين الفنان الراحل فاصلة عمر تقرب من عشرين سنة، ولكن جمعتنا صداقة وطيدة بحيث أصبحتُ المؤتمن على أسراره، وسبب ذلك على ما اعتقد إنَّ الإطار الثقافي بأشمل معانيه وأوسعها هو الذي ارتقى بتلك الصداقة الى الحد الذي كلفني أنْ أحتفظ بكل ما لديه من أوراق ووثائق ومسودات ومراسلات وخصوصيات لكي أتولى بعد وفاته إنجاز (الكتاب الأهم) كما أطلق عليه، عن حياته، وقد اعتذرت عن هذه المهمة بإصرار لسببين، الأول إنَّ من يموت قبل الآخر هو أم أنا لا تقع ضمن صلاحياتنا، والثاني إنَّ كتابة السيرة الذاتيَّة لفنان بمنزلة يوسف العاني أكبر من طاقتي لكوني أجهل مئات القضايا الفنيَّة ومفرداتها ومصطلحاتها، وبخلاف ذلك فالمهمة شرف لي، وقد اقتنع رحم الله بالفكرة. 
في واحدة من جلساتنا الكثيرة، حدثني مرة إنه كان في زيارة الى تونس، وصادف وجود مجلس ثقافي منعقد في منزل السياسي العراقي البارز في العهد الملكي، الدكتور محمد فاضل الجمالي فقررتُ حضور المجلس للتعرف على هذا الاسم اللامع عن قرب، حيث لم يسبق لي أنْ التقيته من قبل، ويكمل تفاصيل ذلك اللقاء قائلاً (استقبلني الرجل استقبالاً كريماً، وهو يعرف بأنني من ألد خصومه وخصوم النظام الملكي.. كانت الجلسة عامة، دار النقاش فيها حول الاقتصاد والسياسة والأدب والتاريخ والفن، وكنت أتابعه بحرص شديد وهو يتحدث في هذه الموضوعات كلها بالكفاءة نفسها وأنا مندهش لغزارة معلوماته وثقافته الموسوعيَّة، وحين انفض المجلس أصرّ على أنْ أبقى معه، وتحدثنا طويلاً وأنا أزداد إعجاباً به، غير أنَّ إعجابي بلغ الذروة عندما حدثني عن فيلم (سعيد أفندي) وأبدى ملاحظات فنيَّة أذهلتني، ولم أستطع مقاومة رغبتي في مواجهة الحقيقة فاستأذنت منه لكي أقول عبارة قد تفتقر الى اللياقة، وهزّ الجمالي رأسه، عندها قلت – الله يطيح حظك يوسف العاني لأنك كنت تقود المظاهرات ضد فاضل الجمالي– وضحك الرجل وقال لي: كنت على حق، ولكن نظرتك ونظرة رفاقك كانت ترى الأمور من زاوية واحدة مع الأسف!!
•. الديمقراطية: منذ مراهقتي الفكريَّة وأنا ألهج بالديمقراطيَّة وحرية الرأي والتعبير، وحين بلغت مبلغ الشباب أصبحت هذه المفاهيم هي حلمي الرومانسي الأجمل، غير أنَّ هذا الحلم ظل مكبوتاً وأسير النظام الدكتاتوري وطغيان صدام، حتى إذا بلغت مبلغ الشيخوخة، وحمل الأميركان الديمقراطية على ظهور الدبابات وكانها عروس ليلة دخلتها، فلما رفعنا البرقع عن وجهها وتساقط الماكياج، فوجئنا بأنَّ عروسنا طائفيَّة وقاعدة وإرهاب وبطالة وفساد ودواعش... عندها صرخت بأعلى صوتي: طاح حظك حسن العاني.. هل هذه هي الديمقراطية التي كنت تحلم بها منذ خمسين سنة هجرية!!