بمناسبة الاحتفاء بمنجزها الشعري..لميعة عباس عمارة شاعرة الماء

منصة 2021/12/20
...

 سعد صاحب
 
الشاعرة تعلن عن شوقها العارم، وتكتب قصيدتها (يا نهر) في العام 1973، من ضفاف نهر السين في باريس، محملة بالأشواق والحنين الى نهرها الخالد الجميل، طافحة بالحب والأمل والحياة والمودة.
البرد الذي تهرب منه الناس الى بيوتها الدافئة، جنة مفتوحة الأبواب، والشعر الفاحم الذي اعتراه المشيب يتناثر مثل الصفصاف لكي يتحنى بالأمواج السعيدة.
المروج الخضراء تفتح ذراعيها للمياه العذبة الوفيرة، حينها كانت الأراضي الزراعيَّة تعيش مجدها الذهبي، ثم امتدت يد الزمن الجائر، لإزالة البساتين وبناء القصور.
العاشقة تنادي النهر أنْ يأخذها على صدره الفسيح، بالحنو والترحيب والدلال، وتتمنى كثرة المداعبة حتى ولو في الحلم, الذي هو انعكاسٌ لمشاعرها الصادقة، لأنَّ الوجود يقوم على الأحلام والأمل والخيال: 
(واشتاكلك يا نهر/ يالبردك الجنه/ صفصاف شعري هدل/ وبمايك اتحنه/ لزني اعلى صدرك وفه/ وسكته وهله وونه/ وطول مدام الحلم/ ما ينشبع منه).
 
فرنسا
عمر الماء أبدي لأنه لا يموت ولا يشيب، يتباهى بسيوله الراكضة صوب الحقول المتعطشة للرواء، بينما عمر الإنسان محدد وقصير، وهذا حكم الحياة الظالم على الكائنات الحالمة بعمر طويل.
الأمواج من ماس ومن ذهب، موجة تسابق موجة في الوصول الى مبتغاها الأخير، إنها نبضٌ يسري في صدره الموشى بالطيور والمراكب والشعراء والصيادين، تحملها نسائم الهواء العبقة بأريج الزهور.
الشاعرة بين الاطياف والذكريات والكتابة، ورغم كثرة الأنهار والبحيرات والشطوط في فرنسا، تعلن خسارتها الفادحة من دون نهرها الجامح العنيد، المقاوم للموت والزوال واليباس:
(عمرك ابد يا ابد/ متباهي بسيله/ وعمري شكثر جم شهر/ جم يوم جم ليله/ موجه اعلى صدرك نبض/ نسمة هوه تشيله/ بلياك يا ضيعتي/ والكلب 
يا ويله).
 
سمك مسقوف
التغريبُ إرهاقٌ وأشجانٌ ومتاعب، والهارب في قارب الى أرض غريبة يحلم لو يعود به المشحوف الى أهله الطيبين، فما بينهم تمر الليالي بالسمر والأشعار والغناء والمزاح.
القمر تشربه العيون النجلاء الساحرة، لكنَّ الخدود تغار من هذا التعاطف، والغيرة ملح المودة.
لا يمكن المرور على نهر دجلة من دون ذكر الحدائق والصبايا الجميلات، ومواعيد العشاق والمقاهي والأصدقاء، وصوت السيدة أم كلثوم الصادح عالياً بين أروقة السهرات الليليَّة الحالمة.
لا يمكن نسيان السمك المسقوف الفاخر، ومنظر النار الساطع في الماء، والجمر المتقد من شدة الوجد والانتظار واللهفة:
(التغريب كله تعب/ دير البلم حدار/ خلي الليالي تمر/ نكته وسمر واشعار/ تشرب عيوني الكمر/ بس الخدود تغار/ من يسكفون السمج/ وتلالي بيك النار/ بين السمج والجمر/ كلبي يظل محتار).
 
تفاخر
النهر جميل سواء كان صافياً أو طيناً أو مليئاً بالكدر، أو مكبلاً بالأصداف والمحار والاشنات، والصخور الكبيرة البارزة.
يتباهى بجمال أمواجه المدهشة، ومن حقه التفاخر عندما يكون محاطاً بالزوارق والمشاعل والأضواء والقناديل والبروج والاسماك والطيور، ومن حقه الكبرياء من كان محبوباً الى حد العشق والصبابة والجنون.
دجلة نهرنا الطيب المخلص الطاهر، وأمنا الحنون التي أرضعتنا من ثديها الوفاء، ومن يتنكر الى قطرات الحليب الطازجة، وطعمها ما زال عالقاً في 
الشفاه.
لميعة سبحت في هذا النهر العظيم، وشربت من عيونه الصافية، وتعمدت بمائه الذهبي الساحر، فهل تنسى ليالي الفرح والسرور والسلام وحدائق الجوري والبنفسج والليلك والخزامى، والشجر المتسلق الجدران المزين بالمصابيح المضيئة.
تكتظ القلوب بالقرب من مياهه السلسبيل، فالنهر رسول المحبة وملتقى العاشقين الأوفياء، وأفضل مكان لغسل الذنوب العالقة في الضمائر:
(كلك حلو خابط وصافي وسخي ومهيوب/ تتباهى حكه يتباهى الهاكثر محبوب/ من منبعك للمصب/ فيت عليك كلوب/ يا ما رويت الغزل/ يا ما غسلت ذنوب).