سوق الحويش للكتب.. من الهيمنة الثقافية إلى الإهمال

ريبورتاج 2022/01/13
...

 محمد عجيل 
 
كانت وما زالت محافظة النجف الأشرف واحدة من معالم الثقافة العراقية، واينما ذكرت ذكر فحولها، اذ اختلط فيها رواد الشعر والأدب برواد السياسة والحوزة الدينية في مرحلة حاسمة من تاريخ العراق السياسي، وحينما نذكر النجف نستذكر واحداً من الأسماء الشعرية اللامعة الذي لقب وقتها بشاعر العرب الأكبر، وهو الراحل محمد مهدي الجواهري الذي يعد أول نقيب للصحفيين العراقيين، ومما قاله فيها متغنياً بدورها الديني والجهادي، (أنابغة الدين الذي دون عرضه ... تدافع يسراه وتحمي يمينه)، كما برز فيها آنذاك الشاعر والخطيب محمد سعيد الحبوبي الذي يعد واحداً من ألمع شعراء ثورة العشرين ضد المحتل البريطاني، كما لا ننسى أن نذكر الشاعر الكبير احمد الصافي النجفي ودوره في رفد الحركة الأدبية بكل ما هو جميل من الشعر سواء في العشق او الحماسة. 
ويبدو أن مدينة النجف الأشرف قد خطت لها تاريخاً أدبياً ناصعاً، اعتماداً على أبنائها وقدراتها الذاتية، بعد أن ذاقت الويلات في عصر النظام المباد، اذ كان يسجن ويعتقل كل من كان يدنو من مؤلفات وعناوين كثيرة، ما جعل حركتها الأدبية تعالج جراحها في السر هروباً من مقصلة الدكتاتور، وكان الرصيف تارة، والبيوتات القديمة تارة اخرى تخبئ بين أضلاعها كتابات تهز مضاجع الظلم والطغيان، حتى جاء فجر الحرية كي يرسم مرحلة أدبية وثقافية جديدة، لعل أبرزها استعادة (سوق الحويش) لدوره كي يكون ملجأ للقاصدين والباحثين عن أدب الكلام وثقافته.
 
تضارب الآراء
السوق في وضعه الحالي وكما شاهدناه، عبارة عن محال لبيع وشراء الكتب الى جانب محال قليلة لبيع المواد الغذائية من قيمر وأجبان ومقاهٍ تقدم الشاي والاركيلة، اضافة إلى مطاعم لبيع المشويات، والسؤال الذي طرحناه، ما أسباب هذا التنوع في السوق وهل هو نعمة او نقمة؟، فأجابنا صاحب محل الأجبان الحاج عماد ابو محمد: إن السوق في بداية نشأته كان لبيع الخضار والفواكه والمواد الغذائية والأسماك مع وجود باعة كتب ينشرون بضاعتهم على الرصيف، وبعد التوسع الذي شهده الصحن الحيدري الشريف، وانشاء سوق الخضار الجديد هاجر الباعة الى هناك وافرغت هذه المحال ومن ثم تحولت مكتبات الأرصفة الى هنا، وها أنت تشاهد السوق فارغاً من رواده باستثناء طلبة الحوزة العلمية، ما يعني أن هذه الكتب ستهاجر هي الأخرى إلى جهة ما، ولا يبقى سوى القيمر والعسل. بينما نفى أحد أصحاب المكتبات الذي طلب عدم الكشف عن اسمه هذه المعلومات وقال: إنها تدليس للحقيقة لأن سوق الحويش عرف على مر السنين بتجارة الكتب، وأبسط شيء اذهب الى أحد مداخل المحافظة  وقل أريد أن أشتري كتاباً بعنوان كذا، وسيقولون لك عليك الذهاب الى سوق الحويش، في حين لو اردت قيمراً فلا داعي لأن تسأل، إن خصوصية بيع الكتاب هي من منحت السوق استقلاليته، اضافة الى كونه محاطاً بمكاتب المرجعيات الدينية، ما يجعل نشأته مرتبطة بالحياة الدينية للمدينة والتي تعود الى مئات السنين.
 
عناوين متميزة
أنشئ سوق الحويش اعتماداً على مصادر من داخل السوق قبل سبعمئة عام، وكان آنذاك ملاصقاً لحرم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وبعد توسعة الصحن الشريف تم نقله الى أحد الأسواق القريبة الذي يعرض الخضار والفاكهة، فاختلطت رائحة البرتقال والتفاح مع عبق الكتب الدينية والسياسية، كما يقول صاحب مكتبة عصر الحجة حيدر الموسوي، الذي اضاف: إن سوق الحويش يعد معلماً ثقافياً بارزاً في الحياة الأدبية والسياسية العراقية من خلال العناوين النادرة التي يعرضها للقارئ الكريم، ودوره البارز في رفد الشارع بكل ما هو جديد من خلال طبعات لبنانية وايرانية ومصرية، وكانت تباع سراً في زمن الممنوع، اذ كانت تسهم في رفد روح المقاومة والرفض للظلم الصدامي، وهذا هو أحد أسباب تميزه عن بقية الأسواق المكتبية، وأكد أن السوق كان الى وقت قريب مكتظاً بالزائرين والشخصيات الدينية والسياسية
البارزة. 
وأتذكر زيارات قام بها السفير التركي والبحريني ووزير الخارجية الايرانية والشخصية التونسية التيجاني، اضافة الى منسقة الأمم المتحدة في العراق، واشار الى أن أوضاع السوق اختلفت عن السنوات العشر الماضية من حيث أسعار الكتب واقبال القراء، وربما يكون ذلك مرتبطاً بأسباب، لعل الأبرز فيها أزمة الوباء العالمي، وانحسار توريد الكتب خاصة العناوين المطلوبة، ويضاف لها انشغال أغلب القراء بتظاهرات تشرين وما نجم عنها من غلق الشوارع والمدن، ما اضطرنا في أوقات كثيرة الى الاقفال مؤقتاً، آملين استعادة نشاط السوق أمام نشاط متذبذب. 
من جهته أشار البائع عبد الرحمن محمد عباس الكعبي الى أن تجارة الكتاب في السوق اصبحت خاسرة ولا تسترد سعر الطبع، وجلوسنا هنا مضيعة للوقت، و لا نستطيع العمل في حقول اخرى بعد أن اخذت المؤلفات الكثير من سنوات عمرنا، وأعتقد أن الوضع في ما مضى كان أفضل بكثير رغم تقييد الحرية والانتهاكات والمطاردات، لكننا كنا نستطيع أن نبيع الكتاب خلسة ونربح فيه، أما الآن فهذه الكتب أمامك ونكتفي بما نبيعه لطلاب الحوزة العلمية الذين يبحثون عن الأسعار الزهيدة التي تتناسب مع حياتهم الزاهدة.
 
أصغر بائع كتب
واوضح الكعبي أن تطور التكنولوجيا والاعتماد على الشبكة العنكبوتية من الأسباب التي تضاف الى ظاهرة العزوف ومن خلالها يتمكن القارئ من الحصول على اي معلومة او كتاب يرغب في قراءته او اقتنائه رغم أن هناك من لا يفضل الاعتماد على هذه التكنولوجيا لكنهم فئة قليلة لا تؤثر في القدرات
الشرائية.
وبيّن أصغر بائع كتب في السوق وهو مصطفى السعيدي والبالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، أن العناوين الموجودة اخذت تتماشى مع متطلبات المرحلة من حيث وجود الروايات والقصص الغرامية التي يبحث عنها الشباب، والتي تتصدر حالياً مشهد المبيعات من قبل طلاب المدارس، وأشار الى أن لقراءة الكتاب نكهة تختلف عن مطالعته الكترونياً، لأنك تشعر بالانتماء لكل كلمة فيه حينما تضعه بين يديك، كما أنه يبعدك عن التزوير الذي تلجأ اليه الكثير من المواقع الالكترونية، وحديث السعيدي في سنه هذا جعلني أجزم أن للسوق اثراً كبيراً في الحياة الثقافية العراقية. 
 
المعارض الدائمة للكتب
ويضع صاحب مكتبة لبنان حسين محمد جبر يده على بعض أسباب العزوف، مشيراً بيده الى معرض الكتاب الدائم الذي انشأته العتبة العلوية الشريفة قريباً من السوق، والذي اصبح مصدرا لسد رغبات القارئ والطالب والباحث من الكتب، وبأسعار تختلف عن أسعار الكتب في السوق، تضاف له معارض الكتب الدائمة التي تقام في العتبات المقدسة في مناطق اخرى مثل كربلاء المقدسة والكاظمية المقدسة مع انعقاد معرض بغداد الدولي للكتاب كل عام، والذي اصبح أحد أهم مصادر بيع الكتب من قبل الشركات ودور الطبع في دول الجوار، والتي نتعامل معها قبل عدة سنين وتقدم لنا التسهيلات من حيث دعم الأسعار، أي إن الدار بدلا من أن تبيعنا الكتب اخذت تأتي الى المعرض كي تسوق ما لديها، وهي بذلك استغنت عن مكتبات السوق، واكد أن هذه الأسباب لم تدرس ولم تعالج من قبل وزارة الثقافة في الوقت الذي تكون جميع دور النشر وبيع الكتاب في الدول الأخرى مدعومة من قبل الحكومات، واوضح أن سوق الحويش ظاهرة غير موجودة في المنطقة باستثناء شارع المتنبي وهذا إن دل على شيء انما يدل على مكانة الثقافة العراقية بين ثقافات العالم، وإن الفرد العراقي مغرم بالأدب والفنون والعلوم الاخرى، ودليل كذلك على قيمة الكلمة حينما تحفظ وتؤرشف، لقد كنا نتمنى أن تعمل وزارة الثقافة على ضمنا الى احدى النقابات الثقافية من اجل أن نستفيد من التسهيلات التي تقدم من خلالها مثل منحة الوزارة التي تقدم الى أشخاص لم يعرفوا معنى الثقافة ولم يقرؤوا كتاباً في حياتهم.
 
إهمال واضح
أثناء تجوالنا في السوق لمسنا إهمالاً واضحاً بشأن الخدمات التي تقدم في السوق، ونتمنى من حكومة النجف تفاديه مستقبلاً، لأن السوق وبضاعته الثقافية عرضة للزائرين من كل مكان، مثل البلدية وما يتعلق بالنظافة، اذ تغيب حاويات رمي الأوساخ، ولا يوجد سوى عامل واحد يجمع النفايات بكارتون مقابل مبلغ مالي يجمعه أصحاب المحال، اضافة الى رداءة مسقف السوق، والذي لا يحمي الكتب والمؤلفات اثناء سقوط الأمطار، كما أن أرضية السوق وجدرانه تحتاج الى إعادة تأهيل، لكونه معلماً حضارياً شاخصاً يقصده الزائرون من كل مكان، وشاهدنا اهمالاً واضحاً في قطاع الكهرباء، وعدم وجود انارة داخلية كافية على اعتبار أن السوق مسقف ولا تدخله أشعة الشمس، ويا حبذا لو اسهمت حكومة النجف المحلية بانشاء مكتبات خشبية على الجدران لغرض وضع الكتب فيها، خاصة إن الغالبية يعرضون بضاعتهم الثقافية على الأرصفة، ما يتسبب في تضييق الطريق على
المارة.