متحف الناصريَّة.. مستودعُ كنوز الحضارة السومريَّة

ريبورتاج 2022/01/16
...

   نجلاء الخالدي 
بمجرد دخولك الى متحف الناصرية الحضاري ينتابك شعور بعظمة وشموخ المكان، واذا ما تجولت في أروقته، حيث الكنوز العتيدة التي حفظت بعناية فائقة داخل خزانةعرض زجاجية  محكمة، فإن خيالك حتما سيأخذك الى تلك العصور التي عرف فيها الانسان أبجديات أول حضارة انسانية بزغت شمسها من أرض اور العظيمة. 
قبل تلك الحقبة الزمنية الفاصلة بين الضوء والظلام كان الانسان يعيش على هذا الكوكب حياة هوجاء لا قيمة لها. حتى وضع السومريون أول حرف وتعلموا فنون الصناعة والزراعة والعمران. يقول عالم الآثار طه باقر في إحدى دراساته "إن الإنسان قضى القسم الأعظم من حياته فى أطوار التوحش والهمجية، في ما يسمى بعصور ما قبل التاريخ (التى استغرقت أكثر من 99 بالمئة من حياة الإنسان والتى تقدر بنحو مليوني عام)، إذ دخلت البشرية فى أخطر تجربة وامتحان لا تزال تعانيهما بانتقالها إلى طور الحضارة الناضجة، وقد تحقق ذلك لأول مرة فى تاريخ الإنسان بانتقال وادى الرافدين في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد إلى حياة التحضر "المدنية".
 
المدنيَّة الأولى
في المبنى الانيق الذي يطل على ضفاف نهر الفرات، يقع المتحف يمكن لك أن ترى آثار الاجداد الذين صنعوا حضارة عمرها آلاف السنين، وكل تحفة فنية يضمها متحف الناصرية، الذي صمم بشكل يشبه "زقورة اور" ليكون شاهدا على تلك الحقبة الزمنية الفاصلة في الحضارة الانسانية، التي نقلت الإنسان نحو الحياة المدنية الأولى.
تحيط المتحف حدائق غناء تخطف أنظار الزائرين، ومن بين ربوع المساحات الخضراء يظهر المبنى المهيب لأقدم وأهم المتاحف في العراق،  الذي شيد منذ نصف قرن من قبل إحدى الشركات البرتغالية العاملة في قطاع النفط، يضم المتحف بين قاعاته السبع كنزا أثريا يعود جزء منه إلى إلى ما قبل سبعة آلاف عام أي قبل اختراع الكتابة.
 
أهم المتاحف
يقول مدير متحف الناصرية الحضاري سجاد عبد الحسن لـ(الصباح) "يعد هذا الصرح الفني من أكثر المتاحف توسعا بسبب وجوده في أرض هي بمثابة متحف عظيم، ويصنف كثاني أكبر متحف في العراق بعد المتحف الوطني، ويزوره يوميا مئات السياح من مختلف أنحاء العالم، ويتميز بأصالة التحف والقطع الأثرية التي تجسد مختلف النشاطات البشرية، التي كانت سائدة في العصور، التي مرت على العراق القديم، مبينا "أن عدد القطع الأثرية التي تضمها قاعاته السبع نحو 1200 قطعة يصل عمر عدد منها الى اكثر من 7800 عام اي قبل اكتشاف الكتابة بحدود 1200عام.
 
قِبلة السيّاح
إنَّ المحتويات الثمينة في متحف الناصرية الحضاري جعلته محور اهتمام فريد من السياح، الذين يتوافدون إلى محافظة ذي قار من مختلف الدول الاوروبية والعربية إلى جانب البعثات الدوبلوماسية العاملة في العراق، وفي هذا الصدد يوضّح مدير المتحف أن هذا المكان يحظى بسمعة دولية جيدة، جعلت منه قبلة السياحة في المنطقة العربية والاقليمية، فالزوار مسحورون بمقتنيات المتحف، التي يعود بعضها إلى ما قبل اختراع الكتابة، ما يعني أن أصل الحضارة الانسانية انبثقت من هذا المكان، الذي لا تتوقف فيه حركة الزائرين ما يجعله من بين أهم المتاحف النشطة في العالم، فضلا عن زيارة  القنوات الاعلامية التي تبث تقارير عديدة عن الإرث الحضاري والانساني الذي يضمه المتحف، كما إن جميع البعثات العاملة في ميدان التنقيب الاثري تختتم عملها بزيارة للمتحف.
 
أقدم مبخرة في التاريخ
كثيرة هي الكنوز الأثرية التي يضمها المتحف، الا أن عدة اشياء تلفت النظر بينها تلك المبخرة التي  تعود لعصور ما قبل التاريخ أي خمسة آلاف عام قبل الميلاد.
مدير المتحف ليس مجرد مسؤول هنا، بل خبيرٌ متمرسٌ في الآثار والتراث، لا يكتفي ومن دون ملل من شرح كل ما موجود في قاعة عصور ما قبل التاريخ للزوار، الذين التفوا حوله وهو يهمُّ بشرح آلية عمل المبخرة، التي سحرت وادهشت زوار المتحف، والذين استحضروا صنع مباخر اليوم، والتي لم تختلف كثيرا عمن صنعه السومريون قبل آلاف الأعوام. وحتى الطقوس نفسها التي تمارسها الجدات والامهات لم تختلف كثيرا عن عادات السومريين، الذين كانوا أيضا يضعون "البخور والحرمل" في المبخرة، إيمانا منهم  بأنها تبعد عنهم الارواح الشريرة، وتجلب لهم الرزق والسعادة، وقبل أن ننتقل إلى قاعة أخرى رددت إحدى السائحات المثل المعروف "ما اشبه البارحة باليوم" بعد أن شرح لنا مدير المتحف عن مبخرة السومريين الجميلة.
 
مكياج السومريات
وفي القاعة السومرية الأولى وجدنا مجموعة من الفؤوس المصنوعة من البرونز تستخدم لقطع الأشجار والأعمال اليومية السومرية تعود الى 3000 عام قبل الميلاد، وفي القاعة نفسها عرضت محارة سومرية تعود الى نحو  2800  عام قبل الميلاد، عثر بداخلها مادة ظلال العيون الأخضر المستخدم كمكياج للنساء.  
يقول مدير المتحف والخبير في الاثار السومرية سجاد عبد الحسن "إن النساء السومريات يعشقن  الجمال وابداء الزينة والظهور بازياء لافتة، ويبدو ذلك واضحا من خلال المجوهرات وأدوات الزينة، التي عثرت عليها البعثات التي كانت تنقب في مناطق عدة من أرض محافظة ذي قار".
 
باحثون ومنقبون
متحف الناصرية ليس مجرد متحف لعرض القطع الأثرية بمكانها، بل أصبح وجهة جديدة للدراسين والباحثين والمنقبين الأجانب، الذي يوثقون بحوثهم الدراسية من خلال زيادة المتحف للاطلاع على الآثار الفريدة التي يضمها المتحف، وقبل زيارتنا إلى المتحف كانت هناك باحثة اوروبية تجري دراسة معمقة عن المتحف وقدمت إلى محافظة ذي قار، من اجل توثيق بحثها عن حضارة العراق والحضارة السومرية تحديدا.
كما يزور المتحف مستشرقون من دول أجنبية عديدة المتحف من بينهم المستشرق الألماني (دانيال)، الذي أبدى إعجابه بطريقة عرض الاثار في المتحف، وكان يمتلك معلومات كثيرة عن حضارة السومريين. ومن فرنسا كان هناك أحد منتجي الأفلام الوثائقية، الذي يرافق إحدى البعثات الفرنسية، التي تنقب في مدينة "كرسو" السومرية. يقول ايڤان ران  لـ(الصباح) "كان لا بدَّ لي أن أزور هذه البقعة من الأرض، فالحياة بدأت من هنا  من أرض اور، مشيرا إلى أنه كان يرافق إحدى البعثات الفرنسية العاملة في ذي قار، وكانت مهمته إنتاج وتصوير مكتشفات البعثة في المناطق الأثرية في محافظة ذي قار.
 
ورشة المتحف
يضم متحف الناصرية أيضا ورشة فنية جميلة تنجز يوميا 400 نسخة مصغرة من التذكاريات لرموز العراق القديم، ليتم توزيعها بين الوفود المسيحية الحاجّة لمدينة أور الاثرية كهدايا وبالمجان، وعن هذه الورقة يقول الأستاذ سجاد عبد الحسن إنها تظهر الوجه المشرق لوطننا الحبيب ومدينتنا، لافتا إلى أن العاملين في الورشة اقاموا بصنع وعمل عدد كبير من النسخ الجبسية المصغرة لزقورة اور وأسد بابل والثور المجنح والقيثارة السومرية، لتوزيعها بين زوار المتحف. ويؤكد عبد الحسن أن هذا لمشروع يسهم في دعم قطاع السياحة الذي تنامى خلال السنوات الماضية في المحافظة، التي تجذب آلاف السياح الاجانب والمحليين.
 واشار الى ان "المشروع يدعم التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، عبر تنظيم رحلات إلى المناطق الآثارية والسياحة في المحافظة.
 
الحس الوطني
وبذل العراق خلال الفترة الماضية جهودا استثنائية في استرداد ممتلكاته الثقافية والاثرية، وحقق نجاحات متواصلة في عملية استردادها، ففي العام الماضي نجح باستعادة 17 الف قطعة اثرية في أكبر عملية من نوعها، خلال زيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الى واشنطن. كما قام مواطنون في محافظة ذي قار بإعادة مئات القطع الأثرية التي عثروا عليها في المحافظة الى متحف الناصرية الحضاري، في بادرةٍ عدّها مدير المتحف بأنها تعكس الحس الوطني لدى المواطن في المحافظة، الذي يقدر قيمة القطع الأثرية التي يعثر عليها ويقوم باعادتها إلى المتحف، مشيرا إلى أنّ المواقع الأثرية قد تعرضت إلى سرقات مستمرة، تقودها مافيات منظمة تتاجر بآثار العراق.
من جهته قال الآثاري كرار الروازق إن المتاحف والمواقع الأثرية في العراق تعرضت الى اكبر عمليات النهب للآثار في التاريخ، فضلا عن نهب وحرق دار الوثائق والكتب والمكتبة الوطنية، وغيرها من المواقع التي تمثل سجلا لذاكرة العراق الثقافية والاجتماعية والسياسية.
 واشار الى أن المثقفين والكتّاب وحتى المواطنين كانوا أول المبادرين لاستعادة وحماية الاثار المنهوبة، وكثير منهم اشترى وثائقَ وأعادوها الى المتاحف العراقية والى الوزارات المعنية.
وما زال المواطنون يقدمون صوراً رائعة للتعاون، فقد قدّم مؤخرا العديد من أبناء محافظة ذي قار الكثير من اللقى الاثارية المهمة الى مفتشية ذي قار.
فقد كانت لفتوى المرجعية العليا بتحريم تداول الآثار دور في إقناع الناس بردِّ ما حصلوا عليه من مسروقات، فضلا عن دور المساجد وعلماء الدين والإعلام بذلك.