القاص محمود أحمد السيد يتمنى كسر يده

منصة 2022/01/16
...

في العدد 1008 من صحيفة العراق للعام 1923 كتب القاص العراقي محمود أحمد السيد مقالًا بعنوان «هيكلة الماضي..» انتقد فيه الأدباء والأعمال الأدبيَّة بشدّة، وأعلن فيه ندمه على ما أصدره من «روايات» قال: «ليت الظروف كانت تُفهم فتكسر يدي قبل أنْ أكتب الروايات الغراميَّة الفاسدة الثلاث...». لكنَّ الغريب أنه استمر بعد هذه المقالة في كتابة الرواية، فأصدر «جلال خالد» التي يعدّها النقاد المحاولة الأولى في الأدب الروائي العراقي.

 
نص المقال: 
«في اليوم الذي تجتهد المكاتب والمطابع في أوربا لإصدار الملايين من النسخ من كتاب (رأس المال) لماركس و(نظريات اينشتاين) وكتاب (النشوء والارتقاء) تجد المكاتب والمطابع عندنا منهمكة في إصدار نسخٍ جديدة من «الأغاني» و»ألف ليلة» تزين الأسواق في أحوال العشاق.
ونحن لا نقصد من ذلك الحط من كرامة هذه الأمة في الشرق، ولكننا نحاول أنْ نحسم الحقيقة للناظرين على ما فيها من خشونة ودرس مؤلم.
إنَّ الشعب العربي لم ينفرد وحده بعشاقه من (عروة بن قيس) و(جميل بثينة) و(كثير عزة) إلى (مجنون ليلى) و(كعب وصاحبته ميلاء) فإنَّ أمثال هؤلاء كثير في الغرب جاؤوا قبل هذا العصر وأشهرهم: (بترارك) وحبيبته (لورا) و(دافنس) وصاحبته (كلوثي) و(هرمان) وعشيقته (دورتليثا) و(دانتي) وخليلته (بياتريس).
ولكنَّ أوربا أسدلت عليهم وعلى أساطيرهم حجاباً صفيقاً عند مفتتح العصر الجديد، وأرسلتهم وكتبهم وتماثيلهم الى المتاحف ودور العاديات، وما هم اليوم في الحقيقة إلا رموز للسخرية والضحك. 
يقوم الآن في الغرب نفرٌ من العلماء، يحاولون أنْ يثبتوا للملأ أنَّ النوم خرافة، وأنه لم يكن موجوداً منذ القدم، وأنَّه سيأتي على الإنسان (يوم يكون السوبرمان) يستغني فيه عنه.
كذلك كان العاملون هناك، وإلى هذا الحد من الارتقاء يبلغ البحث العلمي عندهم.. وعندنا.. عندنا ههنا وفي كل بقعة من بقاع الشرق لا شيء إلا الخيال وإلا الحب وإلا الشعر.
كان الأديب الأوربي حتى القرن الثامن عشر، أديب الخيال، شاعر العواطف، كاتب النزعات والميول النفسية المريضة، أما في القرن العشرين فما هو إلا أديب الحياة، أديب الحقائق، شاعر الفضيلة والنفس السامية، كاتب الدماغ والفكر. 
قبل عشرين سنة أو أكثر ظهر في مصر كتاب علمي باسم (الحقيقة) للدكتور شميل، طبع منه خمسمئة نسخة لا غير، بقيت خمس عشرة سنة مكدسة في المكاتب، ولم يسأل عنها أو يطلبها إلا القليل النادر، ونظهر بعدها (العبرات) فيصرف منها ألوف النسخ بسرعة البرق ويعاد طبعها عدة مرات!
ليت السلطات في الشرق – ولا تغضب أيها القارئ – بيد أناس ماديين قساة يعملون على كسر قلم كل أديب خيالي أو روائي غرامي، يدعي العصريَّة، ولكنْ لا فرق بين نفسيته ونفسية ذلك الشاعر القديم القائل (أحبها ويحب ناقتها بعيري) إلا بالمظهر الكاذب.
آه.
ليت الظروف كانت تفهم، فتكسر يدي قبل أنْ أكتب تلك الروايات الغراميَّة الفاسدة الثلاث: «في سبيل الزواج» و»مصير الضعفاء» و»النكبات» السخيفة التي أعدها لطخة عار في حياتي وحياة الأدب. 
إنَّ العالم كله بشرقه وغربه، لا يزال طفلاً رغماً عما مرَّ عليه من الأدوار.
تلك نظرية من نظريات النشوء والارتقاء.
وأنها لحقيقة ناصعة.
وإنْ كبرت على الجاهلين.
ولسوف تمضي عصورٌ وتأتي عصورٌ، ينمو فيها ذلك الطفل، فيدخل في طورٍ أرقي من طوره هذا.
ولا يستبعد أنْ ينبلج الصبح يوماً عن ظهور شمس الحقائق العلميَّة الخالدة، فيكون (السوبرمان) الذي لا ينام نومنا ولا يأكل أكلنا ولا يعشق عشقنا الجنوني الذي هو أكبر دليل على قرب عهد النفس البشريَّة وبالارتقاء والتهذيب.
وإنا إذا أرسلنا نظرة من نظراتنا إلى التاريخ وقرأنا ما أنشده الشاعر العربي القديم بقوله: 
أيا نسيم الصبا بلغ تحيتنا... الخ
ثم أرجعنا النظر إلى هذه الآلة اللاسلكيَّة التي يسخر ابن اليوم من ابن الأمس المتوسل بالنسائم لتبلغ رسالته إلى من يحب، رأينا عظم الفرق بين الزمنين، ومسافة الخلف بين العقلين، وأدهشنا هذا الانقلاب الهائل في حياة الإنسان. 
 
* محمود أحمد