مصطفى منير
يتجول المتقاعد سعدي عبد (68عاماً ) على دراجته الهوائية، حاملا معه إبريق شاي مغلف ببلاستك، مع قطعة قماش صغيرة يضعها في سلته، ليفرشها على أحد أرصفة المحال التجارية ليستنشق الهواء الطلق، ويستذكر ذكرياتٍ جميلةً عاشها في وظيفته وحياته ويعطي دروساً وعبرا لأصدقائه الشباب، ويقول: أتوجه صباح كل يوم إلى سوق حي الجهاد الشعبي لأجلس فيه لمدة ساعتين واتبادل الحديث مع أصحاب المحال التجارية، الذين أصبحوا بمثابة أسرتي ومصدر سعادتي.
فجدران المنزل باتت تخنقني جدا بعد أن تركوني أولادي وحيدا فيه عندما استقلوا ماديًا، وبالرغم من إحالتي على التقاعد لكنني سعيدٌ وأمتلك أصدقاءً
كُثر».
والأمر ذاته يقوله شاكر جاسم (55 عاماً) الذي إحال نفسه على التقاعد لأغراض صحية، فشاكر يجلس مع أصدقائه المتقاعدين مساء كل يوم في الجزرة الوسطية أمام المحال التجارية في إحدى مناطق بغداد الشعبية، ليتبادلوا النقاشات في المواضيع السياسية والاجتماعية والحياتية، وعندما سألته عن عدم ذهابهم لأحد المقاهي بدلا من الجلوس في الطرقات، أجابني قائلاً: «لا توجد مقاهٍ مخصصة لكبار السن إلا القليل وفي مناطق معدودة، لكننا نأتي إلى السوق لغرض الحصول على هواء نقي يقينا من العزلة والاكتئاب داخل البيت».
أوقاتٌ طويلة
«لم أمتلك الوقت الكافي لممارسة هواياتي، فالعمل أخذ من عمري ثلاثين عاماً» بهذه العبارة ابتدأ الإداري المتقاعد فالح جواد حديثه، مضيفا «بعد تركي للوظيفة استثمرت وقتي في قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، لأنها تقوي ذاكرتي وتساعدني على التركيز».
في حين يروي الشاب حمزة جبر (21 عاماً)، بأن حالة والده الصحية والنفسية قد تدهورت بعد أن تقاعد من وظيفته، حتى أنها كانت سببًا رئيسا في وفاته.
وتابع حمزة: «كان والدي اجتماعيا ويقضي اغلب وقته في العمل والنزهة برفقة أصدقائه، لكن بعد التقاعد تغير كل شيء فيه ليصبح انطوائيا جداً، حتى أنه يقضي أوقاتًا طويلة جالسًا فيها امام التلفاز او نائماً يأبى مغادرة غرفته، وعندما نطلب منه أن يخرج معنا في نزهة او مشوار يجيبنا بأنه منهكٌ وغير قادر على القيام بأي نشاط».
مرحلة حساسة
الباحثة النفسية إيناس هادي سعدون، تحدثت لـ(الصباح) فقالت: «إن انخفاض الوضع الاقتصادي في ظل التقاعد والعجز المادي والمعنوي، فضلاً عن ضغوطات الحياة النمطية الشائعة في مجتمعنا العراقي، تجعل الكثير من المتقاعدين يفقدون قدرتهم على العيش بصورةٍ مستقلة بسبب محدودية الحركة أو الألم
المزمن».
موضحة «كل هذه العوامل يمكن أن تؤدي الى الشعور بالعزلة والوحدة والضيق النفسي، فتسبب مشاعر إحباط قد تصل إلى مرحلة الاكتئاب، وهذا يرجع سببه لتغيير نمط حياتهم خاصةً بالنسبة للرجل، لأنه يفرغ أغلب طاقته في العمل، فهذا التحول المفاجئ من مكان العمل إلى مكان البيت دون تهيؤ نفسي يخلق تغييرات نفسية وفسيولوجية جديدة تتأثر بها صحته، ويشعر بأنها مرحلة قاسية عليه، مما تثير لديه مشاعر الخوف والقلق من الدخول بمرحلة الشيخوخة، فضلاً عن وقت الفراغ الذي يحتم عليه ملأه بالتدقيق على بعض الأمور التي تخص الأسرة، فتتسبب في خلق بعض المشكلات والمشاحنات، لأنه يبدأ بتفريغ شحناته داخل البيت، كما إن طبيعة الرجل الشرقي ممزوجة بين العنف والعناد التي تُزيد من توتره وانفعالاته ومن ثم تتأثر علاقاته بالمقربين منه لأن هذه المرحلة تعتبر حساسة
جداً».
توعيةٌ وبرامج
وتواصل سعدون حديثها «يفترض أن تتم التوعية بهذه المرحلة الجديدة التي يعيشها المتقاعدون واللجوء إلى الراحة، واكتشاف الذات وقضاء وقت كبير في التواصل مع الآخرين، فضلاً عن استثمار الوقت وشغله بأشياء تعود بالنفع على المتقاعد وعلى مجتمعه، من خلال تأسيس مشاريع تدر دخلاً مادياً تعيل المتقاعد وأهلهِ، كما في بعض الدول العربية التي وجهّت اهتمامها بهذه الشريحة المهمة ببرنامج اقتصادي واجتماعي، يعتمد إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة في مواقع متنوعة ذات صلة بتخصصاتهم، من خلال إعادة تعيينهم مستشارين في المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني، مع مراعاة ما يتناسب مع مراحلهم العمرية وقابليتهم على
العمل».
واختتمت قائلة: «اقترح إنشاء منتجعات سياحية تتضمن مراكز صحية للفحص الشامل والدوري، وباحات خضراء مفتوحة يقضون فيها أوقات فراغهم ويمارسون فيها الرياضة، وتوعيتهم بنظام تغذية صحي من قِبل متخصصين بما يناسب أعمارهم وصحتهم الجسدية والنفسية، فضلاً عن قيامهم ببعض الانشطة وقراءة الكتب ومشاركة همومهم وآمالهم وافكارهم الاجتماعية مع بعضهم البعض».