إشكاليات الكتابة والتلقي .. كيف تحوّل قراؤنا إلى كتّاب

ريبورتاج 2022/02/06
...

   صفاء ذياب
 
في تسعينيات القرن الماضي، وربما قبل ذلك بكثير، برز عدد من الكتاب الجدد، بشكل مفاجئ، لأسباب كثيرة، منها إن أغلبهم أصدقاء لكتاب معروفين، والبعض بسبب تواجدهم في المقاهي الثقافية، وتحديداً مقهى حسن عجمي، فبدؤوا يكتبون نصوصاً بسيطة، وبسبب علاقاتهم مع محرري الصحف حينها، كانت تلك النصوص تنشر على الصفحات الثقافية في الجرائد المحلية، ومن ثمَّ، مع بروز ظاهرة إصدار الكتب الإبداعية بطريقة الاستنساخ، كان الطريق سهلا أمامهم ليكونوا كتاباً ضمن أعضاء اتحاد الأدباء.
 
هذه الظاهرة أخذت تتمدّد ما بعد العام 2003، فلا يمر يوم إلا ويأتي قارئ؛ حتى وإن كان بسيطاً، ويطلب كتباً تعلمه الكتابة، ومن ثمَّ فتحت وسائل التواصل الاجتماعي الباب على مصراعيه، فأنتجت كتّاباً جدداً لا علاقة لهم بالكتابة ولا بتقنياتها، فجمعوا ما يكتبونه على صفحاتهم تحت مسمى (الشعر) أو (القصة) أو (الرواية) أو (الخواطر)، وبسبب علاقاتهم الواسعة، وترويجهم لكتبهم على الفيسبوك أو الانستغرام، أصبحت تلك الكتب هي الأكثر مبيعاً، والآن، كيف نقرأ تلك الظاهرة؟ وما أسبابها؟.
 
أفنديَّة الثقافة
يقول الناقد الدكتور فاضل عبود التميمي: إنَّ الكثير من المتعلمين، وأنصاف المتعلمين، يظهرون رغبة في أن يصبحوا (كتّاباً)، وفي ذهنهم الصورة النمطيّة للكاتب بوصفه مثقفاً فاعلاً في المجتمع له القدرة على (الكتابة)؛ تلك التي نُظر إليها في بداية تشكيل الحكم الوطني في العراق عام 1921 مقترنة بوجود (النخبة) وهي تمارس هيمنتها الثقافية على الطبقات الاجتماعية جميعاً؛ فقراء وأغنياء، وممّا أسهم في سطوع نجم (الكاتب) و(الكتابة) بوصف الأخيرة وعياً يمارسه الأول، بزوغ نجم الصحافة في العراق، بمختلف أشكالها ومضامينها واتجاهاتها، عندها ظهرت حاجة ملحّة، وماسة إلى من يرفد تلك المؤسسات بالمقالات، والقصص، والقصائد، والإدارة الثقافيّة، فظهرت طبقة (الأفنديّة) تمارس هيمنتها الثقافية والرسمية في وسائل الإعلام، فضلاً عن وجودها في مؤسسات الحكومة، حتى ظهرت بعض الأغاني وهي تمجّد (الأفندي) بوصفه حالة متميّزة في سيرته، وحياته، من هنا ورث الأبناء عن آبائهم ولا سيما في المدن العراقيّة حبّ التعلم، ومن ثمّ الظهور، فتشكّلت مجموعة ليست بالقليلة من المتعلمين، وأنصافهم، كانت، ولمّا تزل تسعى كي تعمل في الإعلام كي تحقّق لنفسها قدراً من الشهرة والتميّز، متناسية أنّ الكتابة التي تقترن بوجود الكاتب مهارة تصقل بالموهبة، والتعلم وتدوم بالقراءة، والسؤال، وتشغيل الحواس كلها.
 
غواية الكتابة
وبحسب الناقد والكاتب أحمد ثامر جهاد، فمنذ سنوات لوحظ أنَّ هذا السلوك يشكّل ظاهرة لدى معظم القراء، الذين تفتحت أعينهم على عالم القراءة والكتاب في عصر شيوع الانترنت والمواقع الالكترونية، وأزعم أنَّ مكمن هذا الاستسهال بالكتابة والنزق غير المبرّر لولوج عالم التأليف من دون امتلاك العدة المعرفية الكافية والأهم بغياب الموهبة ووضوح الأهداف يعود بالدرجة الأساس لشيوع المواقع الالكترونية من صحف ومنابر أدبية لا عدّ لها ولا حصر، لذا يجد كل شخص من هؤلاء فرصة سهلة لنشر ما يعتقد أنّه نص أدبي مهم، وبعملية تراكمية ستتولد لدى هذا الشخص نزعة الاستخلاف من أنه يمكن لأي شخص أن يصبح كاتباً وبتشجيع من تلك المواقع والمؤسسات الافتراضية التي تغدق على روادها بالشهادات التقديرية والجوائز الوهمية والدكتوراه الفخرية أحياناً.
في المقابل، ولكي تبدو الصورة مكتملة، فإنّ نشر كتاب ورقي ليس بالأمر الصعب حالياً، فهناك العشرات من دور النشر داخل وخارج العراق تطبع أي شيء مقابل مبلغ زهيد، ما يعزّز- في ظل غياب المتابعة والنقد- لدى صاحب المنجز وهم تخطي حاجز الكتابة، وأنّه لا يختلف عن أي كاتب آخر طالما أصبح لديه مطبوع أو مطبوعان أو ثلاثة، وربَّما يعززهم بشهادة أكاديمية لا تقل امتهاناً، إنَنا في عالم يعجُّ بالظواهر والأسماء الكاذبة والفارغة التي عززتها المسبّبات أعلاه، الأمر الذي انعكس سلباً على الكثير من المبدعين في مجالات مختلفة ودفعهم للنأي بأنفسهم عن هذا البازار البائس. قالها إمبرتو إيكو قبل سنوات إن الفضاء الالكتروني سيصبح ميداناً تنافسياً مقزّزاً لناقلي الموهبة والمزيفين، اذ يجد الجميع في تلك الغواية النرجسية المجانية ضالتهم.
 
منافذ رخيصة
ويرى الشاعر جبار الكواز أنَّ هذه الظاهرة المخيفة المنتشرة بين المتعلمين ليكونوا كتّاباً ما كان لها أن تنمو إلا بوجود دوافع مباشرة وأسباب معروفة في مشهدنا العراقي، ولعل من أهمها ميل الإنسان إلى الظهور والشيوع بين الناس ويسنده ضعف ما ينشر فنياً ولغويّاً في الصحف اليومية أو الدوريات الثقافية، إذ أصبحت مهمة إصدار جريدة أو مجلة متاحة من دون فرض شروط أو ضوابط تحفظ ماء وجه الثقافة والأدب، فانتشرت مجموعات ادعت احترافها الصحافة والإبداع، مستندين على دعم مالي مجهول المصدر يتيح لهم التحكم في المشهد الثقافي، ولهذا فإنّ هذين السببين، فضلاً عن عدم كفاءة مسؤولي الصفحات الثقافية الذي نالوا رتبة المحرّر استناداً إلى مصالح متبادلة أو صلة قرابة حزبية أو أسرية، بهذا المشهد المأساوي أصبح لدى أكثر القرّاء تصوّر بأن الحصول على رتبة جنرال في الإبداع مسألة سهلة تقوم على تفعيل العلاقات العامة والخاصة وباستطاعة أي إنسان أن يحصل عليها بواسطة الأساليب الرخيصة التي تعج بها دهاليز مواقع الصحف والمجلات الخاصة والرسمية.
 
مهارة مكتسبة
الشاعرة والقاصة منتهى عمران، تذهب إلى أنَّ ثورة الاتصالات قلبت الموازين القديمة رأساً على عقب وبصورة سريعة وربما مفاجئة ما أدى إلى صدمة جيلين، جيل عاش خارج التكنولوجيا وجيل وجد نفسه في صلبها يتربى بين أحضانها وتسهل عليه ما صعب على الجيل السابق، فكان الصراع بين الجيلين غير متكافئ ولن ينتهي إلى نتيجة يكون فيها مهزوماً أو منتصراً، فالكتابة كانت مقتصرة على عدد محدود، فلا يُنشر بسهولة لأي كاتب إلا بمواصفات صارمة وضعها القائمون على الصحف والمجلات، بل ودور النشر أيضاً، بينما اليوم لا يوجد أسهل من أن تكتب وتنشر مجاناً ومن دون رقيب، وستجد من يصفق لك من دون تردّد وبمغالاة في كثير من الأحيان، فلا تجد نفسك أقل شأناً من كتّاب آخرين ملؤوا الصفحات بكتاباتهم، فسرت العدوى سريعاً بين كل من وجد أنَّها فرصة ليعبّر عن نفسه بالكتابة ووجد من يشجع ووجد أيضاً دور النشر التي اتخذت من الطباعة تجارة مربحة، فملأت السوق بالكتب التي أخذت ثمنها من الكاتب مقدماً ولن تخسر شيئاً إن تكدست مطبوعاتها وإن باعتها فقد ربحت أكثر، الكثير من القرّاء يبحثون عن فرصة لإثبات الذات التي لم يجدوها في دراسة أو وظيفة، فظنوا أنّهم وجدوها في الكتابة فدخلوا هذا العالم من أوسع أبوابه وفاتهم أنَّ الكتابة إبداع وليست وظيفة أو مهارة مكتسبة.
 
تفرّد الكاتب
ويبين الكاتب والروائي مروان ياسين الدليمي أنَّ الكتابة "الإبداعية" عمل شاق، لأنَّها في حالة قطيعة تامة مع العفوية، وما من كاتب نال مكانة كبيرة من دون جهد كبير بذله في قراءة تجارب الكتاب الآخرين، ومعرفة أين تكمن الخصوصية في أسلوب ولغة كل واحد منهم، واليوم وبسبب ما أتاحته وسائط التواصل الرقمية من حرية لا حدود لها للتعبير عن القناعات الذاتية على الفضاء العام، فلا غرابة أن يتلبَّس وهم العبقرية والموهبة أعداداً كبيرة من الأشخاص، ومع وجود من يعمِّق لديهم هذا الوَهم من معارفهم وأصدقائهم الافتراضيين، باتوا يطرحون أنفسهم بوصفهم كُتّاباً ومبدعين، ومع شناعة ما ترتكبه دور النشر من أخطاء عندما تفتح الأبواب أمامهم، إلاّ أنني لست متشائماً إزاء هذا المشهد الفوضوي، لأنَّ ما يتمخض عنه بالنتيجة، عبارة عن كتابات مستنسخة ومتشابهة، لا تحمل أيّة قيمة فنية، في مقابل ذلك أنا مؤمن بأنَّ الكتابة الإبداعية التي تتمرّد على التأطير التاريخي والحساسية التقليدية، لن يصل إليها إلاّ من يمتلك إرادة وإصراراً على أن يخوض هذه المغامرة المضنية، متخلياً بذلك عن مباهج الحياة، لأنَّها تفرض عليه خيار العزلة، ومن دون ذلك لن يُحقق التفرد.
 
حظوة الكاتب
ويكشف الكاتب حسن البصام أن الكتابة امرأة لعوب تغري للارتماء في أحضانها من كان ذا فكر خلاق أو جاهلاً، لأنَّ التعبير سمة إنسانية، لذلك فإن الانزلاق على جادّة الكتابة منوط بما نمتلكه من خبرة ودراية بأدواتها؛ والذي لا يملك المهارة ينزلق، كمن يلقي بنفسه في تيار ماء وهو لا يتقن السباحة.
الكتابة مقترنة بالمجتمع المتحضر، لذلك فإن ما يحظى به الكاتب من إعجاب وتقدير يدفع الآخرين إلى التجريب على قلة استعداداتهم الثقافية والفكرية وهذه الحالة يمكن أن تكون سائدة ومتفشية الآن بعد التحوّلات في وسائل التواصل الاجتماعي التي شهدت اتساعاً في النشر وسهولة في إبداء الرأي فلا منع يفرض ولا نقد يوجّه ولا تقييم ولا رقابة، فانحدرت الأقلام المتعرّجة في مسالك الثقافة المستقيمة لتضيق الدروب بهم، كما أنَّ الكثير من الكتّاب ممن حظوا بوسائل نشر تحت أغطية ايديولوجية حزبية أو عقائدية يثقلون وسائل الاتصال المرئية والمسموعة بحضورهم الثقافي الهش لغرض التسويق لفكرة أو رأي، وكذلك الحال مع استسهال نشر الكتب في أية مطبعة من دون رقيب، حتى تحوّلت الخواطر إلى شعر واليوميات الساذجة إلى قصص قصيرة والحوادث إلى روايات.