محمّد صابر عبيد
المسكوت عنه مادّةٌ كلاميّةٌ أو حكائيّةٌ أو تشكيليّةٌ تخصُّ شيئاً يمكثُ في منطقةٍ مُعيّنةٍ في جوفِ الفمِ ومتاهته المظلمة حيثيحرسُهُ الصمتُ والغيابُ والحجابُ، وثمّة من يغريه البحثُ عن أسراره وخفاياه ومفاجآته كي يأخذَه إلى مجال الإبانة والمعرفة والشيوع والإشهار
لكنّ الحاجبَ يُمعنُ في سكوته وحجبه وتغييبه لأسباب تتعلّق بمقصديّات تحرّضُ الآخرَ على كشف
الحجاب وإنطاق الساكت وإضاءة المظلم لمعرفة ما لا تتيحه ظواهر الشيء الخارجيّة من معانٍ ودلالات، إذ يصبح الداخل (المسكوت عنه) هو الهدف والمبتغى والرجاء والرغبة، فالتطلّع نحو الغائب أكثر وأعمق وأهمّ من التطلّع نحو
ما هو في متناول اليد والرغبة والأخذ، في سياق تشغيل آليّات التأويل وأدواته المنهجيّة المتعدّدة وهي تغوص في أعماق التفاصيل والجزئيّات لأجل تفكيك منظومة الغياب وتحصيل المعنى
الغامض.
المسكوتُ عنهُ يقتضي وجودَ كيانٍ ظاهرٍ يحتوي على طبقةٍ عليا مُصَرّحٍ بها، معلومةٍ، ويصلُ خطابُها إلى الجميع، وطبقةٍ أخرى غير صالحةٍ للإعلانِ والتصريحِ لغايةٍ مقصودةٍ ينطوي عليها الخطابُ لإيصالِ رسالةٍ مضمرةٍ ومكتومةٍ قد لا تصلُ إلّا إلى نخبةٍ من (الجميع)، لكنّ العلاقة بين الطبقتين تظلّ قائمة وفاعلة في تيارٍ سيميائيٍّ يتحرّك جيئةً وذهاباً بينهما كي يسمح بمرور القراءة على نحو لا يقفل الحدود بين
المساحتين.
الرسالة المضمرة
الرسالة المضمرة المكتومة هي ما يمكن أن نصفه بالمسكوت عنه في المصطلح النقديّ الحديث، وهو يجتهد في وضع حدود للمفاهيم العاملة في هذا الحقل، والسكوتُ عن هذه الرسالةِ يُحتّمها ظرفٌ مانعٌ لا يمكنُ تجاوزه أو اختراقه لأسباب كثيرة (ذاتيّة وموضوعيّة) على النحو الذي يدفع إلى التمويه والإخفاء والتصميت والعزل، مع ترك بعض الإشارات والعلامات المتناثرة على سطح الخطاب هنا وهناكلتدلّ على ملامح هذا المسكوت عنه إلماحاً، وتسهيل حركة المرور القرائيّ والتحليليّ والتأويليّ بين منطقة الحضور الصائت ومنطقة الغياب المسكوت عنه،بانتظارِ قراءة ثانية تنطلق من أرضيّة القراءة الأولى وتعمل على إنطاقه تأويليّاً وكشف مسكوتِهِ ودمج طبقتي الخطاب في
طبقة واحدة.
ثمّة مسكوت عنه في كلّ شيء من أشياء الحياة المنظورة والمعروفة والمتداولة، ومن دون هذا المسكوت عنه لا يمكن لأيّ شيء من أشياء الحياة أن يبقى محتفظاً بمائه على نحوٍ يُسهّل له الديمومة والاستمرار والتأثير والإدهاش، فإذا كان (المُعلنُ عنه) نظيراً لـ (المسكوت عنه) هو المَظهَر فإنّ المسكوت عنه هو المَخبَر، والمَظهَرُ قشرةُ المَخبَرِ الخارجيّة التي تفصله عن الآخر لأغراضٍ تتعلّق بالحفاظ على الأسرار، وتغميضها، واستدراج الآخر وإغوائه وتوريطه نحو المغامرة في كشف المَخبَر واكتشاف
مكنزه.
وقد يكون هذا بالذات السببَ الرئيسَ لوجود هذه الأشياء وديمومتها في حاضنة الوجود ومرايا الحياة ما وسعت لها الحركة والاستمرار، فلا وجود ولا حياة لشيءٍ لا ينطوي على كنوزٍ وأسرارٍ وخفايا ولُقَىً تبرّرُ معناه وخصبه وثراءه وديمومته، فمن لا مخبَرَ له لا مظهرَ له حتماً سوى أن يكون بلا معنى ولا جدوى ولا قيمة ولا حضور، ومن لا يُخفي في سلّةِ ظلاله أشياءه الثمينة لا دلالة لما يُظهرِه من إشهارات وإعلانات تسويقيّةلن تتلبّث على شاشة العناية والانتباه طويلاً، فما هو مضمرٌ ومستورٌ ومسكوتٌ عنه أجمل دائماً ممّا هو ظاهرٌ ومعلنٌ بوسع الجميع الوصول إليه في أيّة لحظة، فالغنى دائماً في الجزء الغاطس من الأشياء تلك التي لا تمنح نفسها بسهولة ولا تُرى إلا بعينٍ ذكيّةٍ ومُدرّبةٍ عابرةٍ للمنظور، وتحتاج لأجل الكشف عنها قُدُرات حدسيّة استثنائيّة لا تتوفّر للكثيرين، لكنّها حين تبرز إلى ساحة العمل القرائيّ التأويليّ فإنّها تدهم أرضَ المسكوت عنه المخفيّةَ وراء الظلال والمحروسةَ بألغامٍ وأسلاكٍ شائكةٍ قرائيّةٍ، كي تستبيح مضمراتها بقراءة مغايرةٍ وتأويلٍ عارفٍ وتُخرجها زاهيةً مزهوّةً إلى
ساحةِ العَلَن.
المتعدد والملتبس
ففي الشعر مثلاً المسكوت عنه هو المعنى المضمر الغائر في متاهة من متاهات العقل الشعريّ وانشطاراته، ذلك المعنى المتعدّد والملتبس الذي يسكن دائماً (في قلب الشاعر)، وفي السرد يتمدّدُ المسكوت عنهفي بؤرٍ تتناثر على جسدِ الحكاية أولاً، وفي طبقات الخطاب وتجلّياته ثانياً، وفي المسرح يمكن أن يتوزّع المسكوت عنه في الخطاب أو الأداء المسرحيّ للشخصيّات أو الديكور أو الإضاءة أو غيرها من تقانات العرض المسرحيّ، وكذلك الحال في كلّ نصّ وخطاب وأداء وتعبيرولقطة ومشهد وفضاء لا يكتمل بلا مسكوت عنه يبرّر تكامله ويعزّز وجوده اللافت، من سطحٍ بارزٍ ظاهرٍ إلى جوفٍ مستورٍ بحاجةٍ إلى آلاتِ كشفٍ كفوءةٍ قادرةٍ على فكّ شفراته وإزالة عتمته وإضاءة ظلاله وتبييض
سواده.
بعضٌ من المسكوت عنه يمكن الوصول إليه عن طريق شبكة من الإحالات والإشارات والعلامات والقرائن النصيّة التي لا تخفى على قارئٍ لبيبٍ مُجرِّبٍ له في ذلك خبرةٌ وافيةٌ، وهي تقود إلى تأويل مباشر يستند إلى إعدادٍ معرفيّ نقديّ أصيلٍ، والبعض الآخر يحتاج إلى تأويلٍ بعيدٍ غير
مباشر حين تفتقر الممكنات النصيّة لمثل هذه القرائن والأسانيد المُساعِدة، وقد يشتطّ التأويل ليوغل في نرجسيته وغروره وتأويله،كي يخترع مسكوتاً عنه على مزاجه التأويليّ وعلى وفق مصالحه القرائيّة الأيديولوجيّة قد لا يمتّ بصلة للنصّ أو الخطاب، وهنا تنقطع الشعرة بينهما لينصرف كلّ منهما في
وادٍ غريبٍ.
تأويل المسكوت عنه ضرورةٌ أكيدةٌ لفهم النصّ وإدراك مقولته فيما يُصطلح عليه نقديّاً (البنية العميقة)، والمسكوت عنه طبقة نصيّة تلجأ إلى ظلال النصّ وزواياه المعتمة وطيّاته غير القابلة للكشف بسهولة، لأجل أن تحتفظ بحيويتها وكمونها وسريّتها وعصيانها وخصبها وعذريتها، وحين تفاجئُها رياحُ التأويل العاصفة وتخترق حُجُبَها لا تسلّم نفسها بسهولة، وإن اضطرّت إلى ذلك فهي تسعى لتسليم ما هو قريب يوهمُ بالإذعانِ، وتبقى تُخفي ما يُمكن إخفاؤه في أبعد حيّزٍ من المسكوت عنه، ليكون بمنأى عن رياح التأويل الغازية ويبقى بانتظار غزوات أخرى تفكّكُ ما بقي من صموده
وعناده.
يستدرجُ القارئُ حيوات المسكوتَ عنه بما يحوزه من رغبة قرائيّةٍ عارفةٍ وكفوءةٍ وناقدةٍ وعلى استعدادٍ كبيرٍ لاختراق حُجُب النصّ وتقويض دفاعاته وهدم أستاره، إذ تصبحُ مساحة المكشوف النصيّ مثابةَ انطلاقٍ قويّةٍ نحو التقدّم باتجاه معاقل المسكوت عنه الحصينة لأجل إخضاعها لسلطة الضوء القرائيّ، ومن ثمّ تمزيق حالة التصميت وستارِ الغياب فيه وإطلاق أصوات المسكوت عنه وإفلاتها وإنطاقها تحليلاً وتأويلاً، في سياق رؤية منهجيّة توجّه خلايا النصّ باتجاه التنوير والإفصاح والكشف
والحريّة.