بعد أنْ قطعت الديمقراطية المشوار المطلوب، واستقرَّت على ما استقرَّت عليه في البلدان التي تتعامل معها بهذه النسبة أو تلك، نشأ نمطٌ خاصٌ من العلاقة بين (الحكومة والمعارضة)، أقرب ما يكون الى العرف، بغض النظر عن مستوى الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك، فهما يقفان على طرفي نقيض، ولكن الجانب الأهم يتمثلُ في وجود مظهرين (شكلي أو خارجي) و(حقيقي أو داخلي).
صحيح إنَّ العلاقة بين الطرفين تبدو لمن يجهل ألف باء السياسة وكأنها تنذر بالويلات، غير أنَّ ما يحدث من تصريحات ناريَّة متبادلة لا يتعدى الغطاء الوهمي الطافي على السطح، أما ما يدور في الأعماق والدواخل والسر فهو السمن والعسل، فالحكومة تدرك أنّ للمعارضة الحق في مراقبة سلوكها، وعليها القبول بهذا الحق والخضوع له، مثلما تدرك المعارضة أنَّ وظيفتها الرقابيَّة لا تتعارض مع واجبها في إسناد الحكومة ودعم مواقفها، طالما كانت تلك المواقف في خدمة الناس وإنْ تباينت مع توجهاتها، وهكذا يكتسبُ كل طرف قوته من التعاطي مع الطرف المقابل بإيجابيَّة عالية وتفهم عميق لأصول اللعبة، بمعنى أنهما (خصمان متعاونان) إذا جاز التعبير، وعلة ذلك في بلدان الديمقراطية الحقيقيَّة: إنَّ الهدف بينهما واحدٌ ومن هنا يمكن القول باطمئنان، إنَّ الخلاف بين الطرفين (الحكومة والمعارضة) لا علاقة له بالدين أو المذهب أو العرق أو المنطقة أو لون البشرة، وإنما في البرامج والرؤى والاجتهادات، ومن النادر أنْ نشهد خلافاً بينهما حيثما تعلق الأمر بالقضايا المصيريَّة.
لو ابتعدنا عن العموميات، وعن اللغط الكثير والقيل والقال، واقتربنا من الخصوصيَّة المحليَّة، فإنَّ عراق ما بعد (2003) الذي عرف لأول مرة الديمقراطية وسمع بها، ودخل حلبتها بقوة عبر بوابات الأصابع البنفسجيَّة والانتخابات والشتائم والتهم المتبادلة المطرزة بمعسول الحريَّة وحلاوة التعبير عن الرأي و.. وهو على وفق المنطق والحقيقة والواقع غير مؤهل، ولم ينل ما يكفي من التدريب لممارسة هذه اللعبة الكبيرة الجميلة البراقة والخطيرة في الوقت نفسه، ذلك لأنَّ الديمقراطية أحوج ما تكون الى المهارات والتاريخ العريق والممارسة الميدانيَّة والخبرة المكتسبة وفنون الروح الرياضية.
لعلَّ أصعب شيء- بخلاف الديكتاتورية – هو أنْ نصنع فرداً ديمقراطياً، فكيف والديمقراطية بها حاجة الى شعب وحكومة ومعارضة ومؤسسات تؤمن بها وبحسناتها ومساوئها وألعابها، ولهذا مضت (15) سنة وديمقراطيتنا تراوح في مكانها، لم تكبر ولم تغادر مرحلة الحضانة، حيث ما زالت المعارضة أمام الفضائيات تنظر الى الحكومة نظرة عداء، ووراء الكواليس نظرة عواطف رقيقة، وما زالت الحكومة تكيل التهم الى المعارضة علناً وفي السر تستقبلها بالأحضان، المحسوبون على الحكومة يتحدثون بلغة المعارضة ، والمحسوبون على المعارضة شركاءٌ في الحكم، وبالتالي فهما شيء واحد ويمثلان (الأكثرية)، أما (الأقلية) التي أدركت هذه اللعبة فتمتلك صوتاً يريد خير العراق ولكن الأكثريَّة لا تسمح له، ولذلك ظلَّ صوتاً مكبوتاً وما زال منذ 2003 يجلس على مسطبة الاحتياط ويحلم أنْ يكون أحد اللاعبين!!