مصنع نسيج الحلة أنموذجاً الصناعةُ الوطنيَّة.. في ظل تحديات الفساد وغياب الرؤى الحكوميَّة

ريبورتاج 2022/03/06
...

  محمد عجيل 
كنت أظن قبل الدخول إلى مصنع نسيج الحلة لغرض إنجاز تحقيقنا عن الصناعة الوطنيَّة وتحدياتها بأني سأجد ركاما من المكائن والمعدات المعطلة، وغرفا خالية من العاملين، وهذا هو التصور السائد لدى أبسط المواطنين الذين يمرون بجوار المصنع باكين على إطلاله، مستذكرين تلك الأيام التي كانوا يقفون بها في بابه، منتظرين ما يجلبه الموظفون من قماش يعطى لهم كدعم من إدارة المصنع لغرض شرائه، بسعر يتناسب مع مصاعب تلك الأيام، إذ كان راتب العامل في مصنع نسيج الحلة أعلى بكثير من راتب معلم خدمته تزيد على عشرين عاما، لكن كل شيء تغير مع المتغيرات السياسية التي شهدها العراق بعد العام 2003، إذ توقفت الصناعة وسرح العاملون ونقل بعضهم إلى وزارات أخرى بحجة التضخم وعدم الحاجة، وأصبح كل ما يستلزم الحياة مستوردا من دول الجوار، وما وجدته لم يكن سوى قوانين وقرارات أفرغت من محتواها لغاية ومن دون غاية، حولت مقدرات المصانع في الشركة العامة للصناعات النسيجية التي كانت تسمى سابقا إلى معدات معطلة وامكانيات بشريَّة متوقفة.
الصناعات الأجنبيَّة وسيطرتها
يقول تاجر الأقمشة عباس مال الله "كنا وزملائي ننتظر نهاية الشهر على أحرّ من الجمر كي نشتري الأقمشة التي تعطى هدية للعاملين من أجل بيعها في محافظات أخرى، ونربح من ورائها ثمنا يعيل أسرِنا في زمن الحصار الاقتصادي، اما السجاد فلن يناله الا ذو حظ عظيم، حيث يستخدم في فرش القصور الرئاسية وبيوت الوزراء وكبار المسؤولين، ويصدر إلى الخارج، وأتذكر أن البدلة الرجالية التي كانت تصنع في معمل البسة النجف كانت تضاهي مثيلاتها من المستوردة آنذاك". وأضاف "كلُّ شيء تبدل حاليا، لقد أصبحت انتاجية هذه المصانع ترمى بجوار البالات الأجنبية، ولا نجد من يشتريها بسبب سيطرة الصناعة الأجنبية ورخص ثمنها نتيجة السياسات الحكومية التي تتعلق بالتعرفة الجمركية وحرية الاستيراد، وعدم تطبيق قانون حماية المنتج المحلي". 
بينما تؤكد المتقاعدة نعيمة جبر عباس أنها كانت تعمل في المصنع بوجبتين صباحية ومسائية، لغرض الحصول على اعلى مبالغ مكافآت كانت تعطى آنذاك، وكانت تعيل حينها ثلاث بنات وولدين، اثنتان منهن يدرسن بالجامعة، ذلك لأن المصانع كانت رابحة، وتتنافس في السوق المحلية.
 
نظرةٌ متفائلة
إنَّ واحدةً من أسباب تدهور الصناعة الوطنية هو غياب التنسيق بين الدوائر الحكومية وإدارات المعامل والمصانع في وزارة الصناعة والمعادن، حيث يسعى الكثير من الدوائر إلى شراء احتياجاتها من منافذ غير محلية، وهذا له علاقة بالمنفعة الشخصية والكومشنات التي تعطى للموردين على حساب ما ينتج محليا، هذا ما يطرحه مدير إعلام مصنع نسيج الحلة الزميل حسنين فلاح، الذي أكد أن جميع منتجات معامل مصنع نسيج الحلة تضاهي مثيلاتها من الصناعات المستوردة، لكن كما يقال مغنية الحي لا تطرب، ونحن نقول إن مغنية الحي لا تدفع، إن أغلب الدوائر الحكومية لا يهمها تشجيع الصناعة الوطنية، بل تبحث عن مصالحها المادية الخاصة/ ومن هنا لا بدَّ من أن تكون هناك قرارات تجبر الدوائر الحكومية إلى ضرورة التعامل مع المنتج المحلي، ولدينا في مصنع نسيج الحلة صناعات تتعلق بالألياف الصناعية وأكياس التغليف ومعمل القديفة، وبجهود الأبطال من منتسبي المصنع، تمَّ إنشاء خط لانتاج الطباعة الرقمية (الفلكس الرقمي)، حتى أن الأعلام العراقية التي رفعها متظاهرو تشرين كانت من إنتاج مصنع نسيج الحلة. 
وأضاف أن من منجزات المصنع هو جلب خط إعادة تدوير العوادم الخاصة بالألياف الصناعيَّة، وبتمويل من وزارة الصناعة، وبمتابعة مستمرة من قبل مدير عام الشركة العامة للصناعات النسيجية كاظم محمد جابر ونحن بصدد تشغيله، حيث وصلت نسبة الانجاز في بناه التحتية إلى 90 ٪، ويضم المصنع واحدا من أهم معامل إنتاج أكياس النايلون، سواء الخاص بالتعبئة أو حفظ النفايات، يضاف إلى ذلك لدينا معمل لإنتاج الملابس العسكريَّة والذي كان له دورٌ فعالٌ في تجهيز القوات المسلحة وأبطال الحشد الشعبي ومنتسبي وزارة الداخلية. 
ويمضي الزميل مدير قسم الاعلام بنظرته المتفائلة قائلا إن "المصنع يطرح صناعة وطنية متميزة مثل الديباج والوسادة والجودلية بأسعار تتلاءم مع الوضع المعيشي للمواطنين"، ولم ينسَ مدير الإعلام أن يتطرق إلى مشكلات العمال ومن ضمنها التسكين والترقية والعلاوات، اضافة إلى دفع الاستقطاعات التقاعدية بعد أن رفضت وزارة المالية أن تدفعها كبقية موظفي الدولة، متحججة بأن المصانع ممولة ذاتيا.
 
تسريحٌ مبكر
أولى خطوات عرقلة تطور الصناعة الوطنية بدأت حينما اقرّت الحكومة ما بعد العام 2003 توصيات في نقل الخبرات الفنية والادارية من هذه المصانع إلى وزارات اخرى، مثل التربية والصحة والرعاية الاجتماعية والنفط والكهرباء، بحجة أنها فائضة عن الحاجة، وإن هذه المصانع لا تحتاج إلى تلك الخبرات لأنها بطريقها في أن تعلن للاستثمار تحت شعار خصخصة القطاع العام، هذا ما يقوله المهندس جاسم شلال الذي كان يعمل خبيرا في مصنع نسيج الحلة، وقدم نقلا إلى وزارة الكهرباء لأسباب تتعلق بالرواتب والحوافز والمخصصات الهندسية، إن من أسباب تدهور الصناعة الوطنية هو القرار الحكومي الخاص بتوزيع الخبرات الفنية والادارية للمصانع والشركات على الوزارات العراقية، يضاف إلى ذلك تسريح عدد كبير من العمال والموظفين عبر قانون التقاعد المبكر في ظل هبوط حاد في قيمة رواتب العاملين، خاصة الملاكات الفنية التي أخذت تقارن نفسها مع ملاكات فنية في وزارات أخرى تتسلم رواتب أضعاف رواتبها، ما اضطرها في البحث عن واسطات ومحسوبيات من أجل نقل الخدمات إلى دوائر أخرى، وهذا ما تسبب في إفراغ المصانع من قدراتها التشغيلية وامكانياتها البشرية. والأمر الآخر الذي يطرحه المهندس شلال هو توقف الدعم الحكومي عن المنتج الوطني وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستيراد في ظل غياب سياسة التوازن.
 
مشكلات في التسويق
ويتحدث مدير التسويق حسين جاسم محمد عن أهم المشكلات التي تعتري أساليب التسويق في المصنع قائلا إنَّ "الوصول إلى قناعات بين المنتج والمستهلك هو غاية لا يمكن الوصول إليها بسهولة، ما لم توضع الخطط السنوية التي تأخذ على عاتقها تنفيذ بيع المنتج، سواء على القطاع الخاص او إلى المؤسسة الحكومية، بمن فيها القوات المسلحة على اعتبار مصنعنا يطرح منتوجاتٍ عسكريَّة، وبقدر تعلق الأمر بنا فقد وضعنا خطة بما تتلاءم مع امكانياتنا، حيث لدينا فرقٌ جوالة تزور باستمرار المستشفيات والدوائر والشركات الخاصة، كي تطرح منتجنا من حيث الكم والنوع والأسعار. وأكد أن عملية التسويق الخاصة بالمصنع تعتمد بالدرجة الأساس على صفقات التقاعدات، وفق معايير وشروط قادرين على تنفيذها بالموعد المحدد والكمية المحددة، ولدينا تجارب ناجحة أكدت تفوقنا في هذا المجال، لكن ذلك لا يمنع من القول إن لدينا مشكلات في التسويق، تسبب فيها المتطفلون والفاسدون في الدوائر الحكومية، الذين يفضلون المنتج الخارجي على المنتج المحلي كي يستفيدوا من الكومشنات والاكراميات، وهم بذلك يحطمون الصناعة الوطنية إرضاءً لنزواتهم، وأرى أن المشرّع شريكٌ في ذلك لأنه لا يحمي الصناعة الوطنية، من خلال إغلاق الحدود او تنفيذ التعرفة الجمركية وحماية المنتج المحلي، لا يمكن أن ننكر أن هناك رخصا في الأسعار بما يتعلق بالمنتج المستورد، مقارنة مع ما نطرحه من صناعات، لكن المستورد الأجنبي لا يخضع للضريبة لأنها تفرض على المادة الأولية أي على المنتج المحلي، وهذه طامة كبرى لا بدَّ من معالجتها، وكشف حسين جاسم محمد عن خطة لتطوير المركز التسويقي من خلال توسعته كي يكون على شكل سوق كبيرة للتبضع، في الوقت الذي لا يستطيع به المصنع القيام بحملة إعلانات تلفزيونية كونها غالية الثمن.
 
استثمارٌ لا يلبي الطموح
حملنا جميع مشكلات المصنع ومعاناته وتوجهنا صوب غرفة المدير العام للمصنع المهندس هاشم رشيد الشمري، الذي لم يخفِ تفاؤله حيال الصناعة الوطنية والمنتج المحلي داخل معامل المصنع، شريطة أن تكون هناك رؤى حكومية ناجحة للنهوض بالصناعة الوطنية، وقال إنَّ "هذه المعامل التي شاهدتها بعينك اعتمدت على نفسها، ورغم التحديات تمكنت أن ترسم خارطة طريق لنفسها رغم تواضعها، لكننا جادون بفضل جهود مدير عام الشركة محمد جابر العوادي، الذي لم يذخر جهدا من أجل دعمنا وتشجيعنا، لكننا نحتاج إلى دعم مؤسساتي، وتشريع حكومي يضع الصناعة الوطنية في الخانة الأولى، لقد عانينا من هجرة الكفاءات الفنية والهندسية لأسباب تتعلق بالسياسات الفاشلة او تتعلق بالرواتب والحوافز وغيرها، واليوم يعاد الأمر من جديد، حيث ستلتحق بنا وظائف عقود قد لا تعرف شيئا عن عملنا، لكننا رغم ذلك سنقوم بتأهيلها وتعليمها عبر دورات تستمر خمسا واربعين يوما بمشاركة ملاكاتنا وقدراتنا الفنية. 
وعن الدعوات التي تطلق في طرح المصانع للاستثمار اوضح الشمري "نحن مع الاستثمار الذي ينهض بالصناعة الوطنية ويطورها، ويحمي حقوق العمال ويحقق الربح وينافس المنتج المستورد، ولسنا مع الاستثمار الذي يستخدم قدرات المصانع من أجل تحقيق غاية شخصية بعيدا عن الدوافع الوطنية، لقد كانت لنا محاولة فاشلة في استثمار معمل انتاج الأكياس كان من نتيجتها قيام المستثمر في استغلال مخازن المصنع في حفظ منتج لم يكن وطنيا، ما دفع أجهزة الأمن الوطني بوضع اليد عليه وهو حاليا قيد التحقيق". واشار إلى أنه "لا يمكن أن تنجح صناعتنا من دون خطة انتاجية وتسويقية طويلة الأجل يضعها مجلس الوزراء، وتنفذها الوزارات، ولدينا القدرات البشريَّة والتشغيليَّة التي يمكنها أن تفي جميع التزاماتها تجاه المتعاقدين، لا بل لدينا القدرة على التصدير. 
وتطرق الشمري إلى محاولات إدارة المصنع تنفيذ رغبات الموظفين في توفير سكن لائق بعد أن عجزت الحكومة المحلية شمولهم بقرار توزيع الأراضي بحجة مصطلح التمويل الذاتي، مؤكدا، وجود محاولة لغرض عرض خمسة عشر دونما للاستثمار من اجل بناء مجمع سكني عمودي يلبي توفير سكن ممن أفنوا زهرة شبابهم في خدمة الصناعة الوطنية، كما عبّر الشمري عن ألمه الشديد وهو يرى وزارة الكهرباء تطالب بمبلغ ملياري دينار ديون في ذمة المصنع، تدفع حاليا على شكل أقساط شهرية تقدر قيمتها بخمسة وعشرين مليون دينار، بينما تلتزم الصمت جميع الوزارات التي تجاوزت على مساحة المصنع.
 
صمودٌ وتحدٍ
ولم ينسَ مدير مصنع نسيج الحلة أن يتحدث عن أكثر فترات العمل تحديا وخطورة، وهي العام الذي انتشر به فيروس كورونا وتوقفت بسببه جميع مفاصل الحياة، لكن المصنع بقيَّ يعمل من أجل خدمة أبناء شعبنا وتوفير أبسط مقومات التصدي للفيروس وهي الكمامة، حيث أنتج مصنعنا كميات كبيرة منها كانت تصل إلى الدوائر الصحية مجانا، وبسيارات المصنع الخاصة، كما قمنا بتوزيعها مجانا في الدوائر الحكومية لغرض مواجهة الوباء واستمرارية العمل، فكانت وقفة صمود وتحدٍ قلما نجدها في دول أخرى، تمكنا من خلالها أن نكسب رضا الخالق عزَّ وجلَّ وثناء أبناء شعبنا.