هل ستكون آسيا الوسطى هي التالية بعد أوكرانيا؟

قضايا عربية ودولية 2022/03/13
...

 ترجمة وإعداد: أنيس الصفار
فِي أواخر العام 2013 عندما بدا وكأن أوكرانيا على حافة الانفلات من مدار روسيا تطلب الأمر من الكرملين جهداً جهيداً لشد الرئيس الأوكراني حينها "فكتور يانوكوفيتش" إلى الوراء بعيداً عن الحافة. بعد ذلك بثلاثة أشهر انتهى عهد يانوكوفيتش الذي فر إلى المنفى في روسيا أمام تظاهرات يوروميدان التي شبت كاللهب في الحياة السياسية الأوكرانية. تلك الأحداث غرست في عقل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بذرة الحاجة إلى التحرك، وقد وجدت تلك البذرة تربة خصبة في أفكار يمكن أن ننسبها إلى تخوف بوتين من الثورات الملونة الذي عبر عنه في خطابه بمؤتمر ميونخ للأمن في 2007. الأحداث المأساوية التي نشهدها الآن، حيث تتدفق الفرق تلو الفرق من الجنود الروس على أوروبا الشرقية، إنما تمثل النتيجة المباشرة لتلك البذرة.
الضغط الكبير الذي تعرض له يانوكوفيتش في تشرين الثاني 2013 يوضح بجلاء أين يرى بوتين حدود نفوذه الذي لا ينازع والذي تمثل بطموحاته في إقامة اتحاد اقتصادي أوراسي. كانت الرسالة بسيطة وواضحة: فإن كنت فيما مضى واقعاً ضمن رقعة الامبراطورية الروسية، أو رقعة الاتحاد السوفييتي، أو قريباً غاية القرب من حدود روسيا الحديثة، فإن سيادتك مجرد وهم وعليك أن تتوقع تلقي التوجيهات من الكرملين.
في أكثر من مناسبة وصف بوتين تفتت الاتحاد السوفييتي بأنه كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، وهذا أمر ملفت للنظر .. أن يعتبر بوتين لحظة التحرر هذه أعظم كارثة في قرن شهد حربين عالميتين وصراعات ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر بينهم 20 مليون مواطن سوفييتي. من هنا نستطيع أن ندرك ببساطة الهدف الذي كان بوتين يضعه نصب عينيه طيلة أكثر من اثنتين وعشرين سنة من القبض على مقاليد السلطة المدنية الكاملة .. وهو إعادة بناء الامبراطورية الروسية.
اهتمام العالم اليوم مركز على أوكرانيا وجهدها الدفاعي المشهود، وهذا له مبرراته المفهومة، لكن علينا أن ننظر أيضاً إلى الصورة الأوسع، وهي أن أوكرانيا ليست وحدها من يقف على مفترق طرق وجودي قبالة روسيا بوتين.
آسيا الوسطى منطقة واسعة تمتد رقعتها من بحر قزوين إلى الصين كانت خاضعة في الماضي لروسيا القيصرية ومن بعد ذلك للاتحاد السوفييتي. لم تكتسب أكبر دولها، وهي كازاخستان، الاستقلال إلا منذ ثلاثين عاماً لا غير، ولكنها خلال فترة حياتها القصيرة كأمة مستقلة كانت تمارس عملية دبلوماسية دقيقة جعلتها كمن يمشي على حبل مشدود في محاولتها الموازنة بين مصالح الصين كقوة صاعدة وروسيا التي لا تزال تشعر بالمرارة والغرب المتفرق المشتت. من خلال ذلك النهج، الذي كثيراً ما يوصف بأنه "متعدد التوجهات"، اكتسبت كازاخستان خبرة مثيرة للاعجاب في استغلال علاقاتها المتعددة الاتجاهات لتعجيل حركة التنمية لديها إلى جانب ضمان أمنها وسيادتها.
بيد أن هذا الوضع المستتب انقلب رأساً على عقب في وقت سابق من العام الحالي عندما دعا الرئيس "قاسم جومارت توكاييف" القوات الروسية إلى دخول بلده للمساعدة في إخماد الاحتجاجات المدنية، وفي لحظة واحدة تحول بوتين من جار وشريك إلى طرف يمسك مصير كازاخستان بين يديه. 
حدثت في أعقاب ذلك تظاهرات صاحبتها تطورات مؤسفة واعتقالات أثارت سخط البرلمان الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان والعديد من الهيئات الدولية الأخرى. ورغم استمرار بعض التظاهرات المتفرقة إلى الآن تشيع اليوم واجهة من الاستقرار الظاهري حيث استعيد النظام ورحلت القوات الروسية مثلما أتت. كانت هناك أيضاً حملة دولية من الإطراء والثناء بقصد إبراز دور الحكومة في معالجة أسباب الاحتجاجات من جذورها والقضاء على الروتين وتعزيز فرص العمل للشبان الكازاخستانيين المتذمرين.
لكن بوتين هو الذي يسيطر على مصير كازاخستان الآن، واحتمالات أن تحول روسيا وجهة اهتمامها إلى باحتها الجنوبية القديمة في آسيا الوسطى متى ما أكملت مهمتها في أوكرانيا لا يمكن تجاهلها. الأمر الواضح منذ الآن هو أن اقتصاد كازاخستان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما سيؤول إليه وضع روسيا في وجه العقوبات الغربية، عدا هذا فإن لدى كازاخستان أقلية من العرقية الروسية بالقرب من حدودها مع روسيا، فما الذي سيمنع بوتين من استعادة السيطرة رسمياً على هذا الجار الغني كما كانت في أيام الاتحاد السوفييتي؟ وما الذي سيمنع توكاييف الممتن من الاستجابة لمطالبه؟ ترى من الذي سيمنع بوتين من التحول بعد ذلك إلى قيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان؟
لقد كان القصد من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي هو أن يكون الرد المقابل على الاتحاد الأوروبي، لكنه بحالته الراهنة لم يستطع إثبات امتلاكه القوة الكافية لمواجهة طموحات بوتين. تمثل أوكرانيا الخاصرة الغربية لروسيا وبذلك كانت الخطوة الأولى على طريق استعادة الامبراطورية الروسية، ويبدو أن دور كازاخستان وجيرانها في آسيا الوسطى سوف يأتي لاحقاً.   
 
ديفد ميركل/عن موقع "ذي ناشنال إنتريست"