لم يعد خافيا أن الإرباكات التي شهدتها بلادنا خلال الستة عشر عاما الماضية والتي وسمت بمسمى المرحلة الانتقالية، لم تكن ناجمة عن طبيعة التحول من نظام دكتاتوري مستبد إلى نظام ديموقراطي تعددي وحسب، إذ إن التدخلات الخارجية والإرادات الدولية كانت بصمتها واضحة على طبيعة الأحداث وسلسلة الأزمات والإرباكات التي تشكلت بموجبها معطياتها ملامح المرحلة الحالية.
فقد كانت البلاد ساحة صراع لدول إقليمية وإرادات دولية فعلت فعلها في تحريك الأحداث التي جرت وراءها الكثير من التداعيات، فتشكلت على اثر ذلك ملامح جديدة فرضتها مخرجات الإرباكات الناجمة عن هذه الصراعات الدولية والإقليمية. واليوم وبعد زوال الإرهاب ينفتح العراق على جيرانه ليبدأ مرحلة جديدة يمد من خلالها يديه إلى عموم الدول الصديقة والشقيقة أملا في العيش بسلام والشروع بعلميات البناء والإعمار وتحقيق التنمية المستدامة لشعب يستحق الحياة. فقد آن الأوان ليتمتع الشعب بخيراته ويتنفس هواء الحرية بعيدا عن شرور التجاذبات الدولية والإقليمية، ما يعني أهمية ألا نغفل استمرار صراع الغرماء والأضداد الدوليين والإقليميين الفاعلين في الساحة العراقية الذين كان لهم الدور الأكبر في صنع الإرباكات خلال المرحلة الانتقالية ونحن ننفتح على العالم، إذ ما زال هؤلاء الغرماء يخوضون حربا باردة بمختلف الأدوات، وبات من الواضح أن سياسة الاحتواء الاقتصادي واحدة من هذه الأدوات التي تجلت ملامحها في تسابق دول الجوار على ساحة الشراكة الاقتصادية والاستثمار بالمشهد الاقتصادي، في ظل عولمة اقتصادية تسيطر على آلياتها الأطراف الدولية التي أنفقت سبعة ترليونات دولار على مشروع الشرق الأوسط الكبير خلال السنوات الخمسة عشر الماضية بشهادة الرئيس الأمريكي “رونالد ترامب”. ولكي لا تكون البلاد ورقة للتفاوض بيد الأطراف المتصارعة على حساب مصالحنا الوطنية فيما بعد، فان من الواجب أن نعي حقيقة سياسة الاحتواء الاقتصادي بوصفها البديل الناعم عن أسلوب التدخل السياسي والعسكري ونحن نسعى لاستقطاب الاستثمار والشراكة مع عموم دول العالم ودول الجوار، اذ ان الحاجة الماسة لتدوير عجلة الاقتصاد وتوفير الخدمات وفرص العمل ستكون مدعاة للقبول بالدعوات الرامية مثلا الى تعديل قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 لمنح ملكية الأرض لصالح المستثمر، ما سيسهم في تزاحم رساميل الغرماء للاستحواذ على المشاريع التي تعود ملكية الأرض فيها لصالح رأس المال الأجنبي، ومدعاة لمنح المزيد من التسهيلات للشركات والرساميل الأجنبية من دون ضوابط تنظم حركة الأيدي العاملة وتدفق السلع والأموال من والى الداخل العراقي، ومدعاة لتنافس رساميل الغرماء على صناعة القرار السياسي من خلال الاستحواذ على القدر الأكبر من مساحة الحديقة الخلفية للفعاليات الاقتصادية، التي ستزيح بدورها الرساميل الوطنية في ظل تسهيلات ضريبية لصالح دول الرساميل عملا بمنع الازدواج الضريبي، وبالتالي فان برامج الهيمنة التي أسست لها الجهات الدولية التي قادت مجريات الأحداث للقبول بالحلول الجاهزة، ستصطدم بتزاحم الرساميل الغريمة لها، ما سيجعل المشهد الاقتصادي ورقة للتفاوض لصالح هذا الطرف أو ذاك على حساب المصالح الوطنية العراقية بعد أن يتجلى الصراع في شكل حرب اقتصادية. الأمر الذي يتطلب دراسة كل المعطيات واستشراف التوقعات في سياق ابرام التعاقدات بما يضع مستقبل البلاد والعباد في منآى عن الاحتمالات التي قد تلحق الضرر وتصادر الارادة.