نصب الشهيد.. تحفة معماريَّة شاخصة تروي قصص التضحية والفداء

ريبورتاج 2022/03/26
...

  بدور العامري
للقبة الزرقاء دلالة على قدسية الحدث وعظمته وهو (الشهادة)، وفكرة الخداع البصري التي بني على أساسها نصب الشهيد لها فلسفة تحاكي القلوب والعقول قبل العيون، إذ عمل المصمم على إنشاء قبتين متجاورتين يخال للناظر من مسافات بعيدة أنهما قبة واحدة، لكن بالاقتراب والاستدارة تبدو كأنها تنشطر شيئاً فشيئاً، ليظهر من بينها شيء ما، يتمثل بالعلم العراقي الذي يرمز إلى سمو وارتقاء روح الشهيد إلى السماء.
 
رمزية المكان
لنصب الشهيد مكانة كبيرة في نفوس العراقيين، إضافة إلى السياح من خارج البلاد، باعتباره رمزاً لقضية الشهيد العراقي لمختلف الفترات التاريخية وليس لمرحلة معينة، لأن مبدأ التضحية والشهادة مستمر باستمرار وجود من يعشق تراب هذا الوطن ويقدم نفسه قرباناً له.
يقع النصب الذي يحتل مساحة تقدر بـ42 دونماً في جانب الرصافة من بغداد، وله بوابتان، الشمالية من جهة شارع فلسطين والأخرى على طريق قناة الجيش، هذه البقعة التي طالما كانت تستهوي كل من وطأت قدماه مدينة دار السلام، كما يقول المواطن غيث أمين (43 عاماً) الذي كان متواجداً في حدائق نصب الشهيد برفقة أسرته: يعد معلم نصب الشهيد الوجهة الأولى للسفرات الأسرية والمدرسية. 
 
موقف وفكرة
الدكتور مؤيد جاسم نصيف مدير نصب الشهيد تحدث عن فكرة تصميم القبة الزرقاء التي استوحاها المصمم إسماعيل فتاح الترك من مشهد صادفه شخصياً، عندما كان يسير في إحدى مناطق مدينة الحلة، وشاهد قبة أحد المساجد وهي مشطورة، إذ استطاع المعماري المبدع أن يجد تفسيراً لهول الحدث الذي رآه في قدسية قضية الشهيد، ويوضح نصيف "أن فكرة نصب الشهيد كانت موجودة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، أما تنفيذ العمل وافتتاح النصب فكان سنة 1981بكلفة بلغت (40) مليون دينار عراقي في حينها، واشترك في تصميم باقي وحدات المبنى المهندس سامان أسعد، كما أسهمت في تنفيذ النصب شركة ميستبوشي اليابانية، إضافة إلى عدة شركات استشارية وهندسية أوروبية أخرى".
ينبوع الحياة
اعتمدت فكرة صرح نصب الشهيد على ثلاثة مرتكزات، أولها القبة الفيروزية وثانيها (الراية) العلم العراقي ثم الينبوع الذي يشكل فلسفة الحياة القائمة على الماء، استناداً إلى قول الله سبحانه وتعالى "وجعلنا من الماء كل شيء حي"، وتابع  الدكتور مؤيد شرحه لدلالات النصب وكيف أن ينبوع الماء هذا يرمز للحياة الأبدية والخلود في الجنة التي سينعم بها الشهيد، في وصف دقيق يصور محطات الحياة بكل مراحلها من هدوء الماء المنساب من الينبوع الدائري، ثم نجد الصوت يرتفع نتيجة لتساقط المياه من خلال الشلال إلى أسفل الموقع، وهي دلالة على صخب الحياة. مشيراً إلى أن هناك من يعتقد أن انسياب الماء يمثل دم الشهيد وهذه معلومة خاطئة. 
 
متحف الشهداء
توجد في جميع دول العالم متاحف تضم صور الضحايا ومقتنياتهم وأساليب البطش والتعذيب التي تعرضوا لها، بهدف التوعية والتثقيف ضد هذه المآسي وعدم السماح لمثل تلك الأنظمة بالعودة إلى السلطة وممارسة أفعالها الإجرامية تجاه الشعوب، في نهاية السلم الذي يتوسط قاعة شعاعية التصميم تعلوها أقواس ذات طراز إسلامي متداخلة فيما بينها، نجد صوراً ومجسمات لشهداء العراق من مختلف الطوائف والمدن، فبينهم شهداء الحركات الإسلامية من مراجع وعلماء الدين، الذين استهدفتهم أنظمة البعث المجرم، وكذلك صور لسجن ومعتقل نقرة السلمان ومأساة الكرد الفيلية وضحايا الحزب الشيوعي وباقي فئات المجتمع العراقي إبان الحكم الدكتاتوري، وصولاً إلى مكان عرض صور ضحايا عصابات داعش الإجرامية من شباب سبايكر والأيزيديين.
بقايا رفات
حبال المشانق وأدوات التعذيب في السجون والمعتقلات ونماذج من الأحكام اللاقانونية التي أيدت إعدام عدد من المناضلين الأبرياء في تلك الفترة، وليس بعيداً عن هذه الأدوات نجد بقايا رفات لشهداء المقابر الجماعية التي لم يسلم منها حتى الأطفال الرضع، إضافة إلى مقتنيات بعض الشهداء من رجال الدين أو قياديي الحركات المناوئة لحزب البعث الحاكم آنذاك، وما يزيد الحزن حزناً آخر وجود طاولة كبيرة تتوسط أحد الممرات مليئة بنتاجات ومؤلفات بمختلف التخصصات الطبية والهندسية والإسلامية والاقتصادية وهي تعود لبعض الشخصيات المثقفة ممن أعدمهم النظام الصدامي. 
 
صورة بألف قصة
من الخطأ أن تحسب رمزية نصب الشهيد على فترة معينة، كما يعتقد البعض، إنما  في الواقع هو تجسيد لقضية الشهيد العراقي على مر التاريخ.
أثناء التجوال في متحف الشهداء كانت هناك صورة كبيرة ذات خلفية حمراء مائلة للون البرتقالي، تضم داخلها ألف صورة لرجال ونساء كبار وصغار لكن بدون أسماء!، وبعد الاستفسار عن أصحاب هذه الصور حدثنا الدكتور مؤيد قائلاً "لهذه الصورة دلالة عميقة تثبت أن هؤلاء الشهداء يجمعهم مصير واحد وهو الشهادة، وأنهم قتلوا على يد نظام ظالم واحد لم يفرق بين صغير وكبير وبين عالم أو إنسان بسيط"، مبيناً أنهم تقصدوا وضع هذه الصورة في المتحف مع عدم ذكر الأسماء أو الألقاب أو المهن لهؤلاء الشهداء.
 
شعور متناقض
سرعان ما تبدل شعوري من الاسترخاء والتمتع بجمال التصميم العمراني في منظر القبة الزرقاء في الهواء الطلق مع هدير الماء في أجواء ساحرة تملأ أعلى المكان، إلى الشعور بالحزن بسبب المناظر المؤلمة التي يحتويها متحف الشهداء في الطابق السفلي للبناية، هذا ما تحدثت به سائحة ألمانية كانت متواجدة على أرض نصب الشهيد برفقة شخص آخر ومترجمهما الذي توجهنا له بالسؤال حول انطباعهم عن المكان.
أبو علي أحد الموظفين العاملين في متحف نصب الشهيد، يصف لنا مشهداً آخر يبين دقة وروعة تصميم نصب الشهيد، وهو ظهور شكل خارطة العراق وسط القاعة كخيال لتصميم العلم العراقي المتدلي من على سقف المبنى، مبيناً أن هذا الشكل يظهر بصورة واضحة عندما تكون الشمس عمودية.
 
مخاوف
أثناء مغادرتنا لموقع نصب الشهيد، التقينا المواطن حيدر الحسيني (43 عاماً) الذي أبدى تخوفاً وتساؤلاً في آن واحد، حول كيفية الحفاظ على مستوى رؤية معالم النصب، وحمايته من تأثير المباني العالية، خاصة أن المنطقة تشهد حركة إعمار ملحوظة في الآونة الأخيرة، الدكتور مؤيد أجاب عن هذا التساؤل، مبيناً أن من الشروط الأساسية لنصب الشهيد أن يبقى ذا فضاء مفتوح ولمسافات محددة وهذه من واجبات أمانة بغداد التي يقع على عاتقها الحفاظ على التصاميم الأساسية للمباني وعدم تعارضها مع المعالم الثقافية والنصب القائمة، كما عليها الوقوف بحزم تجاه أي تجاوز من الممكن أن يؤثر في مستوى الرؤية للنصب، وبحسب الدكتور مؤيد فإن مؤسسة الشهداء تحتاج إلى دعم مالي أكبر من الجهات الحكومية، الأمر الذي سينعكس على زيادة الاهتمام بصيانة نصب الشهيد وتأهيله، بوصفه أحد المرافق التابعة لها.
 
أنشطة ثقافيَّة
المزاوجة بين الحجر والمرمر ووجود النخلة التي تعد من أهم رموز حضارة وادي الرافدين على مر العصور، مع نقش لأسماء الجنود الشهداء أثناء الحرب العراقية الإيرانية على جدران المبنى، كانت من بين اللقطات التي استطعنا تسجيلها خلال جولتنا في نصب الشهيد. 
وللمشهد الثقافي حصة تمثلت بوجود قاعة كبيرة مجهزة لتستقبل مختلف الفعاليات والأنشطة الثقافية والفنية التي تخص الشهيد العراقي، وبحسب مدير النصب تقام العديد من الندوات وورش العمل، فضلاً عن المعارض الفنية لعدد من رسامي وفناني البلاد، بالتنسيق مع مختلف الوزارات والمؤسسات، فضلاً عن الشخصيات العامة، لعرض نتاجاتهم على أرض نصب الشهيد باعتبارها وسيلة لتثقيف الجمهور حول حجم التضحية التي قدمها الشهداء مقابل الحرية والحياة الكريمة للأجيال المقبلة، وأهمية الحفاظ على المكتسبات التي تحققت كثمن لتلك الدماء الزكية.