ياسين النصير
حقلان مهمان في النظرية الأدبية لم نلتفت إليها بجدية،مع أنهما يستطيعان ان يصفا أمورا اجتماعية وانسانية تشكل الأرضية الواسعة لحياتنا اليومية. على مستوى النظرية النقدية،يعد الحقلان:السخرية والتهكم، من مكونات النظرية الثقافية، التي تجد في الحياة اليومية الكثير من المظاهر السيميائية التي بامكانها أن تشخص ما يحدث.في جانب من القول التهكمي والقول الساخر، أنهما مختلفان، وقد بحث الدكتور عبد السلام بنعبد العالي جانبهما اليومي الحياتي، في مقالات قصيرة عبر فيها عن الفروق بين الأديب المتهكم والاديب الساخر، فالأول “يشعر دوما أنه من سلالة رفيعة لذلك لا يتهكم على نفسه”.في حين أن الساخر يمكن ان يسخر من نفسه، السخرية متواضعة، أما المتهكم والقول لعبد السلام “فيصدر عن إحساس بالقوة،إنه دائما في موقع من يتصيد نقاط الضعف” ( سيميولوجيا الحياة اليومية ص39).
وللسخرية والتهكم جذور عريقة في الثقافة الفلسفية والأدبية، لعل ارسطو وكيرغارد عالجاها مبكرا في اطروحاتهم ، عن التهكم،يصفان به ان هذا النوع جزء من الأدب والفن، ويتحدث نيتشه كثيرًا عن السخرية بوصفها المقلب الفني لحقائق الحياة اليومية، والتي غالبًا ما كانت مصدرًا للفلاسفة لأن يبنوا عليها بعض افكارهم، “ اميل إلى تصنيف الفلاسفة حسب جودة ضحكهم واضعا في أعلى مرتبة أولئك الذين يقدرون على الضحك الذهبي” نيتشه.
ولن نبتعد كثيرا فحقل السخرية والتهكم في أدبنا يكاد يكون معدوما، لأن الطبيعة النفسية والاجتماعية عندنا لا تسمح كثيرًا التعبير عن المواقف المتناقضة بما يصفها بدقة ،ومع ذلك يكان الأدب الساخر عندنا يقصر على النكتة، وبعض الأخوانيات في الشعر، والقليل من الصور القلمية الساخرة عن الشخصيات، واستطيع القول أن الأدب الشعبي عندنا أكثر الفنون تعبيرًا في مواضيعه الاجتماعية نقديا عن طريقة السخرية والتهكم، في حين يخلو الفن القصصي والشعري والمسرحي من السخرية والتهكم، ولا يمكن أن نعد فن الفكاهة فنًا ساخرًا أو متهكمًا، فهذا فن أخر له قوائمه التعبيرية منذ ارسطو وحتى العصر الحديث سمي احيانا بالملهاة، واحيانا بالادب الساخر، أو الكوميديا. في حين ما نراه ملائمًا لطبيعة أدبنا هو الكاريكترية التي عبر عنها ملا عبود الكرخي وحبزبوز وغازي، وعدد من فناني الكاريكتير، بطريقة تمزج بين الادبية الفنية والسخرية، في حين أن دون كيشوت مثلًا تعد أول رواية عالمية اعتمدت السخرية والفانتازيا شكلًا تعبيريًا عن فنون القرن الثالث عشر، مستخدمة اللغة الشعبية التي كانت إطارًا عامًا للحياة اليومية في حين ان اللغة الفصحى وهي اللاتينية كانت الشكل الرسمي للتداول الأدبي والثقافي، وبظهور دون كيشوت باسلوبها الساخر وبفنيتها الشعبية التي تمزج بين الخيال والواقع، عدت تحولًا في الأدب، ومازالت دون كيشوت من الفنون الساخرة التي عمقت صلة الرواية الشعبية بحياة الناس.على مستوى أدبنا الشعبي لدينا خزين من الموروث الشعبي الشفاهي والمدون، خاصة أدب الجاحظ والامتاع والمؤانسة والسير الشعبية والكثير من الأشعار والحكايات خاصة الف ليلة وليلة وكتب الجنس، لتشكل ارضية غنية لفنون السخرية والفنتازيا والتهكم، ولكن لم يستثمر احد منا هذا الإرث كما استثمرت الليالي والديكاميرون في الثقافة العالمية.
مهمة السخرية أن تستفز قناعاتنا بما هو موجود، أي تحدث صدمة (سيغالين).فتخلخل الثقة بالنفس. بينما تميل فنون التهكم إلى ظهور شخصيات تعتبر نفسها متعالية، إما بتأثير من موقعها السلطوي، أو المادي، فالرعية والفقراء، يكونون حطب المتهكمين المتعالين موقعًا وسلطة. وفي البعد الاجتماعي تميل السخرية والتهكمية إلى التقليل من الآخر كما يقول عبد السلام، وهي حالة ترتبط بالأديولوجيا المهيمنة.