أنف الفضول

استراحة 2022/04/23
...

 سهى الطائي
حين تعيش وسط كم هائل من الناس وتحاول بكل السُبل أنْ تتأقلم مع ظرفك ومع من حولك وتجتهد وتسخر كل قوتك لتكون وسطياً لا تنحاز لفئة ولا تتدخل في ما لا يعنيك وكل هذه المحاولات قد تبوء بالفشل لأنك وبكل حالاتك الصلبة واللينة لا تعجب الكُل وسيبتليك الله «بأحدهم «الذي قد يخرجك عن طورك، ويدفعك لتكون شخصاً غير الذي تعوده الناس منك فكلٌ منا يا صديقي مُبتلى بنوعٍ من الناس يحشر أنفه بأدق تفاصيلك ويتعمد أنْ يضع المجهر ليشاهد ما لا تريد أنْ تقول أو أنْ تُريه للملأ وإنْ كنت بعيداً عن هذه التصرفات ولا تحبها ولا تأخذ حيزاً من تفكيرك إلا أنها تؤذيك بمرارتها.
وتقول الحكمة «أرقى الناس هو أقلهم حديثاً عن الناس، وأنقى الناس هو أحسنهم ظنا بالناس»
فهناك من يراقب الناس حباً، وهناك من يراقبهم فضولاً، وهناك من يراقبهم حسداً وحقداً... وعلى اختلافها بدنوها وبعدها تقسم هذه الأنواع الى ثلاثة أقسام ففي النوع الأول يختلف قرب ذلك الشخص عنك فقد يكون قريباً مُقرباً رغماً عن أنفك تربطك به صلة قرابة أو دم، وهذه الحالة من أصعب هذه التدخلات فهنا لا تستطيع أنْ تنهره عن تدخله بشؤونك ولا تستطيع أنْ تبعد نفسك عنه أو تصرخ بوجهه معترضاً على ما يفعله وستظل تتحمل غلاظته لأنك ببساطة لا تستطيع إلا الصمت؛ والصمت القاتل خاصة إذا كان الشخص أكبر منك سناً ويرى أنَّ من واجبه أنْ يتدخل في أُمورك الخاصة والخاصة جداً، وسيكون صبرك عليه مضاعفاً ومضاعفاً لكي لا تخسر نفسك بخسارته لأنَّه قد يكون مفتاح جنتك في دنيا زائلة إنْ كان أباً أو أُماً أو أخاً أو أُختاً مثلاً، وبأنَّه قد يكون من صنف المراقبة التي يكللها الحب.
والنوع الثاني يتتبعك فيه شخصٌ آخر يختلف عن الأول بعيد عنك بصلته لكنه قريبٌ في القلب قد وضعت له ردهة رفيعة مما سمح له ذلك بالتدخل بشؤنك الخاصة من دون طلبك مشورته بوصفه صديقاً عتيقاً يهمه أمرك، أو زميلاً مُلازماً لمجدك، فهذا النوع قد يكون أقل وطأة من الأول لأنَّه غالباً سيكون بعمرك، لكنها لا تخرج إلا من فئة التدخل الفضولي، وتستطيع أنْ تعبر عما تشعر به تجاهه، لا سيما أنْ كان يحتمل صراحتك وامتعاضك مما يفعل تجاهك.
أما النوع الثالث فهذا بعيدٌ قريبٌ لا يمتّ لك بصلة لا من قريب ولا من بعيد، لكن بحكم سكنك قربه أو وظيفتك معه أو ملامستك له ولو من بعيد قد يجعله يتصيّد لك الأخطاء ويتقمص دور المُصلح الشهم الذي لا يقبل الخطأ منك وإنْ كنت غير مُتعمد أو مُتقصد فهو يضعك دائماً بخانة المُراقبين الذين يهتم لأمرهم ليس لشيء سوى حبه في الاستطلاع والمُراقبة لا يؤمن «بالهم» الذي سيصيبه من هذا التركيز في حياة الناس يؤمن أنَّ «أنفه» ليس للتنفس فقط؛ بل له وظائف أُخرى هي «حشره» في حياة الآخرين لغاية هو فقط من يعرفها أو قد لا يعرفها، لكنه مستمرٌ بعمله، همه ما حدث للناس وما يفعلونه بحياتهم التي لا تعنيه، وهذا هو النوع الأخير الحاسد الحاقد.
فحقيقة مراقبة الناس وتتبع خطواتهم ماذا فعلوا؟
وأين ذهبوا؟
ومع من تحدثوا؟ وماذا لبسوا؟
ليس إلا مرضاً يجب التشافي منه، والأجدر به مراقبة نفسه وتداركها وإلا هلك..
وأنت يا من تراقب الناس وتنشغل بهم وتتبع خطواتهم وعثراتهم.. ماذا تستفيد من هذه المتابعه؟
لن تستفيد إلا الهم والنكد، وخصوصاً إذا كان هؤلاء الناس لا يلقون لك بالاً! وأذكرك يا من أشغلت نفسك بمراقبة غيرك بهذه الأبيات
إذا رمت أن تحيا سليماً مـن الأذى
ودينك موفـور وعِرْضُـكَ صَيِـنّ
لسانك لا تذكر به عـورة امـرئ
فكلـك عـورات وللنـاس ألسـن
وعينـاك إن أبـدت إليـك معايبـاً
فدعها وقل يا عين للنـاس أعيـن
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودافع ولكن بالتـي هـي أحسـن
فمراقبة الناس لا تورث إلا الغيظ والبغضاء والحقد والعداوة، ويكاد الغيظ يقتل صاحبه ما لم يتدارك نفسه.
وللخلاص من كل تلك التدخلات بقربها وبعدها لا بُدَّ من اتخاذ رد فعل صارم مع الجميع حتى وإنْ كانت تلك التدخلات والمراقبة في حياتك كأنْ توجه نفس أسئلته التي يطرحها عليك أو أنْ تلوح له بأنك تستطيع أنْ تتدخل كما يفعل هو؛ لكنك لا تحب وتتنزه عن هذا الفعل القبيح، ولو ركز الناس بحياتهم وتفاصيلها كما يتابعون حياتنا لوصلوا لمناصب رفيعة بتطوير ذاتهم لكني أجده مرضاً لا شفاء منه وقد يتمارض الناس بعدوى في ما بينهم بدعوى قربهم من بعض وتقليدهم للآخر، والغريب في الأمر أننا أكثر أمة تملك آياتٍ وأحاديث وعبراً ومقولات تحث على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وإنَّ الحكم على البشر والتدخل في شؤونهم ليس من شأن البشر أصلا «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ».