د. نائل الزامل
يقدم الروائي علي فالح روايته الضحيَّة عن شخصيَّة نمطيَّة فكراً وسلوكاً تدير مبنى قمعياً مكوناً من أربعة أقسام ومجموعة من الموظفين يتشابهون جداً بتنفيذ الأوامر ويتسابقون في طاعة المسؤول، لذلك لم تمنحهم الرواية أسماءً بل صنفتهم حسب الأعمال الوحشيَّة التي يقومون بها ويكررونها كل يوم بدقة متناهية لا تقبل الخطأ، تتحول أجسادهم الى ساعاتٍ بايولوجيَّة تكونت لديهم من التكرار الدائم لنمط حياتهم وعملهم القائم على تعذيب مجاميع بشريَّة ليس لهدف معين كاستجواب أو أخذ معلومات وإنما يمثل التعذيب هدفاً بحد ذاته، هم يقومون بهذا العمل المتوحش من دون ضغينة أو حقد أو كراهيَّة نحو الأشخاص المعذبين، فهذه مهما كانت مشاعر سلبيَّة لكنها تبقى إشارة الى الحياة والشعور وهذا بعيدٌ جداً عن العقل النمطي الذي يفسر الأشياء وفق منهجٍ أحادي كتب له وهو يمارسه لبقيَّة حياته، مجموعة من الأجساد الرشيقة الرياضيَّة التي تنعم بصحة جيدة جداً، تمارس عملها اليومي دون غياب أو تلكؤ أو خطأ، ويملكون اختصاصات وفق عمل الأقسام الأربعة داخل مبنى الصليب، اللافت للنظر هو وجود قسم الابتكار الذي يوحي بالتجدد، لكن عمل القسم قائمٌ على ابتكار وسائل تعذيب جديدة، ما يجعل العقل النمطي في حالة تفكيره يقوم بخلق مبررات ارتكازه ووجوده داخل النمطيَّة السائدة معززاً تمركزها وهيمنتها، وتبقى عمليَّة التجديد في اختيار سلوكيات الأذى تقع ضمن الإطار الواسع للنمطيَّة ولا يمكن أنْ تتجاوزه.
تمثل الشخصيَّة المركزيَّة في الرواية والتي يتابعها الراوي في تفاصيلها كافة ويتخذ من عدسة الكاميرا في مشاهد تقربها العدسة مركزة طريقاً لوصف حركة وجسد الشخصيَّة المركزيَّة التي تكرر الأفعال ذاتها في التوقيتات ذاتها، لا شيء يتغير فالعقل النمطي قائم على الثبات ويعد حركة الزمن أكبر تحدٍ يواجه النمطيَّة ومهما حاولت التشبث ستصاب بالهرم والشيخوخة وكلما سعت لتسيطر على متغير الزمن تحولت الى مرحلة خارج التاريخ بل خارج دائرة الغياب والحضور، ويبقى وجودها قائماً على هيمنتها وتسلطها، وتمثل الشخصيَّة في تعاملها تكراراً يومياً مقدساً تستعيد به نشاطها وديمومة وجودها.
اعتمدت الرواية السرد المتسلسل لحركة الزمن، لا توجد ذكريات أو استعادة لمواقف سابقة، لم تخبرنا الرواية بشيء خارج السرد الأحادي الذي يبدأ بزمن تراتبي يشبه نمطيَّة الشخصيات في العمل، قد يكسره الراوي في توجيه أسئلة داخل المتن تأخذ الرواية من التآلف الكتابي الى الشفاهيَّة، حيث يضع أسئلة استدراكيَّة في بعض الأحيان أو استغرابيَّة وكأنما يطرحها على جمهورٍ حاضر، فتكون صبغة الحكائيَّة سائدة وخروج الراوي الضمني عن دوره كراوٍ مصاحب للأحداث، إذ يتحول في لحظة السؤال الى راوٍ عليم بالنهايات، يشعر المتلقي بخطورة الأسئلة وإقحامه في نص تتبعي لا يملك فيه التكهن أو أي شيء استباقي للأحداث.
وزعت الرواية بين فصول قصيرة جداً واقتربت من رواية الوعي واستغرقت تفاصيل كثيرة في الوصف الدقيق لجسد الشخصيَّة المركزيَّة وأهملت بقيَّة الموجودات، وقد يشعر القارئ أنَّ الراوي انهار قبل الشخصيَّة المركزيَّة التي سعى الى إفشالها مبكراً من خلال تنصله عنها أو طرح أسئلة سلبيَّة تجاهها، ولم يعمد الى القيام بتوضيح ماهيَّة وجودها ومفاهيمها وأفكارها والغور في شعورها إلا في لحظة انهيارها التام تجاه إحدى الشخصيات المعذبة حين رفضت أنْ تعلن صراخها.
تشكل روايَّة الضحيَّة إدانة واضحة للنمطيَّة في التفكير والسلوك والنظام، وتمثلها بأبشع صورتها في تقييم الإنسان وفق أحد العناصر التي يملكها وحشره في زاوية الرفض الكلي لجميع وجوده، فاختلاف الأفكار في العقل النمطي قد يؤدي الى سلب المختلف حقه في الحياة، لكن في رواية الضحيَّة تتجاوز عمليَّة الرفض للآخر الى فرض خطوات معينة قسراً على المختلفين، فالسلطة تملك حق التعذيب ولكنها تطالب بأنْ تسمع صراخ الضحايا، وهذه المعادلة (التعذيب/ الصراخ ) تحافظ السلطة على ديمومتها، ومتى ما امتنع المعذب عن الصراخ تفقد السلطة هيبتها وعنفوانها وفاعليتها وستصاب بالشلل وهو بالضبط ما تعرضت له السلطة وتحولها الى الشعور المر بالهزيمة. ولكون التسلط عقيماً لم يكن للشخصيَّة المركزيَّة أبناءٌ لكن داخل هذه الإشارة الرمزيَّة تبقى الشخصيَّة بتسلطها تملك مقدرتها على الإنجاب أو باقل تقدير على أنْ تكون فاعلة تجاه مفعول به مهشم ومحطم بالكامل ترتبط حياته بتلبية رغبات السلطة= الشخصيَّة المركزيَّة، وتتحول الأدوار بين الزوجة المُستلبة من الوجود الى خدمة الذكوريَّة، وبين المأمورين الملسوبين تجاه السلطة ويملكون تسلطهم على المعذبين، وتقوم العمليَّة الآمريَّة الهشة من الشعور بالوجود الهرمي الوهمي في المجتمع، فالرئيس موجود كرئيس سواء أثناء الدوام الرسمي أو خارجه، ومن خلال نظام الأوامر تقوم عقليَّة القمع والمنع والتعذيب بالهيمنة على جميع جزئيات المجتمع.
تؤكد خبايا النص أن الجميع داخل النص ضحايا، يعيشون في سعادات وهميَّة ويمارسون أدواراً مرسومة لهم مسبقاً، في تجارب الاعتقال ينصح المعتقلون القدامى المعتقلين الجدد بالصراخ بأعلى أصواتهم، لا شيء يُشبع رغبة الجلاد بأنَّه أتمَّ عمله وواجبه إلا صراخ الضحايا، هذه النصيحة تكون للتخفيف عن الجنون الوحشي الذي قد يصيب الجلاد كنوبة هستيريَّة حين يصمت المعذبون، ومن خلال إطار الأدوار يمثل الضحايا أدوارهم المقسومة بين جلاد ومعذب، ومن خلال قاعدة الانتقام الأزليَّة المغروسة في النفس الهمجيَّة سوف يفقد الجميع متعة الحياة.
لم تكن الشخصيَّة المركزيَّة الا ضحيَّة مقولات قاسية تجسد بهيئة ذكر يحاول أنْ يحفظ وجوده داخل تلك المقولات وكذلك شخصيَّة المرأة التي تجسدت بمقولات اجتماعيَّة تجبرها على الخضوع التام لهذا الذكر المتغطرس الأجوف الوجدان، وبمجرد أنْ تنكسر ثنائيَّة (التعذيب/ الصراخ) يبدأ كل شيء بالانهيار وأول ما يفقده الجلاد هي معايير الذكورة التي يسعى دائما للتفاخر بها.
تؤكد الرواية أنَّ الأنظمة الدكتاتوريَّة مهما بطشت فإنها تنهار أسرع مما يتخيل أكثر معارضيها تفاؤلاً، أنها أنظمة تستند على فقاعات من الذكوريَّة وأشكال من الملابس العسكريَّة أو المليشياويَّة وتوحد شكلها لتشعر الجمهور بسطوتها الوهميَّة.