حازم رعد
من الموضوعات التي أخذت حيزاً كبيراً من اهتمام الفلسفة على امتداد تاريخها الطويل أي «موضوعة الدولة التي يقودها حكام وسياسيون فلاسفة»
فإنَّ (تحقيق الاتفاق بين الفلسفة والسلطة السياسيَّة أمرٌ يصعبُ جداً تحقيقه وغير محتملٍ لكنه مع ذلك ليس مستحيلاً) كما يقول ليو شتراوس. ففي حال أردنا إثبات إمكانيَّة ذلك علينا استحضار تاريخ الفكرة، ففهم أي فكرة مرهونٌ بمعرفة تاريخها، وعند تناول التاريخ فإنَّ أول ما ينسبق الى الذهن هو اهتمامات افلاطون بمفهوم الحاكم الفيلسوف، فحيث أصر افلاطون على قدرة الفلاسفة وتوفر الاستعداد عندهم على إدارة الدول وإنَّهم فئة من الناس متفردة بما تتملك من الاستعداد للقيادة، كما أنَّ إقدام الديمقراطيَّة «الاثينيَّة» على إعدام معلمه سقراط كان حافزاً لتمسكه بفكرة الحاكم الفيلسوف، ومذ ذلك الحين شنَّ هجمة عنيفة ضد الحكومات الديمقراطيَّة، منبهاً الى أنَّها منتجة للفوضى وتوفر وعياً زائفاً عند أولئك الغوغاء الذين سمحت الديمقراطيَّة لهم بإبداء الرأي، وكذلك أنَّ الطغيان بحسب افلاطون ينشأ من الديمقراطيَّة.
وأيضاً أكد افلاطون ضرورة أنَّ من يتسلم قيادة الدولة «المدينة» هم الفلاسفة دون سواهم، وقد تكلم بذلك صراحةً (ما لم يُصبح الفلاسفة ملوكاً في بلادهم أو يصبح الذين نسميهم الآن ملوكاً وحكاماً فلاسفة جادين ومتعمقين وما لم تجتمع السلطة السياسيَّة والفلسفة في فردٍ واحدٍ… ما لم يحدث ذلك كله فلن تهدأ يا عزيزي جولوكون حدة الشرور التي تصيب الدولة.. بل ولا تلك التي تصيب الجنس البشري بأكمله) وليس من هذا النص أجلى عبارة تفصح عن تصور افلاطون لمن ينبغي أنْ يقودَ الدولة.
من هذه اللحظة استطاع افلاطون تقديم تصورٍ فلسفي عن طبيعة الحاكم الفيلسوف من حيث مواصفاته وما يتميز به شكل النظام الذي مفترض أنْ يتربع على عرش حاكميَّة الدولة فقد (شكلت لحظة سقراط أنموذج شخصيَّة الفيلسوف الحاكمة على نفس افلاطون ومملكة تصوراته وفكره) ومن بؤرة الوعي الافلاطوني هذا تم توليف مفهوم «الحاكم الفيلسوف» فقد حلم طوال عمره بنظامٍ سياسي يقوده فيلسوف.
انتقل هذا اللون من المفاهيم كغيره الى فلسفة العصر الوسيط، إذ كان لفلاسفة ذلك العصر دورٌ مهمٌ في إذكاء الفكرة وتطويرها، ولعلَّ أوضح أنموذج هو فضاء المدينة الفاضلة للفارابي الذي يعدُّ من أبرز الفلاسفة المسلمين الذين أخذوا عن افلاطون فلسفته مع التجديد عليها، فقد رأى أنَّه من أجل تحقيق سعادة الأفراد داخل الدولة لا بُدَّ من (تحقيق تحالفٍ بين الفلسفة والسياسة؛ أي بين الملك والفيلسوف) كما يقول مصطفى عبد الرزاق.
هنا بدأت فكرة الحاكم الفيلسوف تختلف عما طرحه افلاطون، فبدلاً من كون الحاكم هو نفسه الفيلسوف بحسب الاشتراط الافلاطوني يجد الفارابي إمكانيَّة عقد تحالف بين شخصين يمثل أحدهما الجانب النظري والحكمة والثاني أداة التنفيذ وإدارة السياسة، فيكتفي الفيلسوف المشرع أنْ يكون عضواً داخل المجتمع المحتاج الى تنظيراته لتسيير عقول رجال السياسة وليس مباشراً للسلطة بنفسه. ويتكلم الفارابي عن مفهوم الحاكم أو الملك الفيلسوف بأسماءٍ مختلفة مثل (الرئيس الأول للمدينة الفاضلة، والإمام، ورئيس المعمورة) متماشياً مع الجو الإسلامي المحيط وحاذراً في الوقت ذاته من استفزاز أولئك الذين يسيئون الظن في الفلسفة والفلاسفة.
و(لاخوان الصفا وخلان الوفا)، الجماعة الفلسفيَّة التي نشأت في البصرة رأيٌ وأقوالٌ في فكرة الحاكم الفيلسوف تقترب من افلاطون ويقاربها الفارابي في تصوراته.
هذه الفكرة لم تتوقف عند اللحظة الافلاطونية أو الفارابيَّة من جهة ورغم تعرضها لنقدٍ كبيرٍ ومهمٍ من جهة ثانية، ولعلَّ أبرز من نقد هذا اللون من التفكير هو كارل بوبر، إذ كانت له وجهة نظر مختلفة حدتْ به للمقارنة بين حكم الفلاسفة عند افلاطون وبين الحكم الشمولي الاستبدادي الذي مارسته الماركسيَّة في العصر الحديث، فقد ساوى بوبر بين الشكلين من حيث الاستبداد والشموليَّة المتعسفة. ولكن الفكرة تجاوزت ذلك؛ أي اللحظة التاريخيَّة والنقد والمراجعة فكانت أنْ حطَّتْ أمام منظورات الفلسفة المعاصرة، ولكن تناولها الآن سوف يختلف، فحين كانت الفكرة أنْ يباشر الفلاسفة الحكم بصريح الممارسة جاءت مع ليو شتراوس بشكلٍ مختلفٍ، إذ يؤكد الأخير صوابيَّة حكومة الفلاسفة الذين يسميهم النخبة التي تمتلك المعرفة ولكن طريقة مباشرة السلطة مختلفة حيث اعتبر لها أنْ تكون سريَّة وليست معلنة؛ ومعنى ذلك أنْ يمارس الفلاسفة «النخبة» دون المستشارين أو المشرعين غير المباشرين للسلطة والحكومات لأنَّ مباشرة الفلاسفة للسلطة تؤدي الى مفاسد عديدة أولها جلب الضرر للفلاسفة وجعلهم في منطقة الخطر وكذلك تجعلهم في مباشرة في التعاملات.