المزارعون العراقيون مرغمون على هجر أراضيهم

بانوراما 2022/05/17
...

 ترجمة: أنيس الصفار
          إلى ما قبل سنوات قليلة كانت الزراعة في جنوب العراق مورداً مربحاً لا يقل عن النفط. يستعيد قاسم عبد الواحد ذكريات تلك الأيام، عندما كانت قطعة أرضه الزراعية البالغة مساحتها هكتاراً في محافظة البصرة تنتج ما يكفي لإطعام عائلته المؤلفة من ثمانية افراد. لكن قدميه تثيران التراب اليوم وهو يتمشى في تلك الأرض بعد أن أهلكت الحرارة الشديدة المتفاقمة والجفاف المرتبط بتغيرات المناخ 90 بالمئة من محاصيله الشتوية بما في ذلك كل ما زرعه من الباميا والباذنجان.                                                                                     
يقول قاسم، الذي أدرك عامه الخمسين: “قبل بضع سنوات فقط كنت أستطيع أن أجلس هنا لأستريح. كانت الخضرة نضرة وجميلة. لكني حين أنظر إليها الآن أشعر وكأني فقدت فرداً من عائلتي”.
يعتقد قاسم، الذي أمضى حياته يزرع الأرض في قرية ابو الخصيب، أنه سيضطر إلى هجر أرضه قريباً ليبحث عن سواها أكثر خصباً في مكان آخر.
بمجرد أن أبتعد عن مسامع عائلته قال مكملاً حديثه: “قبل ثلاثة أسابيع بدأت أفكر بالانتقال إلى بابل للعمل مزارعاً هناك، لكني لا أستطيع قول هذا على مسمع من أطفالي”.
وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة يأتي العراق خامساً على مستوى العالم من حيث تأثره بدرجات الحرارة القصوى ونقص المياه، ومنطقة البصرة خصوصاً التي تعاني أجواء حر خانق في موسم الصيف حين تصل أعلى درجات الحرارة المسجلة 53,8 درجة مئوية، تعد من بين الأسوأ
تأثراً.
وإذ أصاب الجفاف والحرارة الضاريان الانتاج الغذائي ومصادر دخل المعتمدين على الزراعة، الذين بلغت نسبتهم واحداً من كل خمس عشرة أسرة عراقية في 2021، بدأ واحد على الأقل من افراد الأسرة بالنزوح بحثاً عن فرص اقتصادية جديدة، وفقاً لدراسة أجراها المجلس النرويجي للاجئين.
 
حرارة أقسى ومياه أقل 
تتجلى الضغوط بأوضح صورها في منطقة أبو الخصيب الواقعة جنوبي مدينة البصرة على ضفاف شط العرب. ففي الشتاء الماضي خسر قاسم عبد الواحد غلته المنتظرة بأكملها من محصولي الباميا والباذنجان وهي تعادل 3700 دولار، اضافة إلى 400 دولار انفقها في زراعتهما. في الشتاء الذي سبق كانت خسارته في هذين المحصولين نصف هذا
الرقم. يقول قاسم: “هناك الآن مزيد من الغبار بسبب التغير المناخي، والارتفاع في درجات الحرارة لم يعد يطاق، كما ظهرت ايضاً أنواع جديدة من العدوى المرضية والحشرات لم نصادفها من قبل.”
اشتهرت منطقة ابو الخصيب ذات يوم بتمورها، ولكن أشجار النخيل اليوم يعلوها الغبار وانتاجها في انحسار. في آخر مرة كان محصول التمور الذي جناه قاسم أدنى بمقدار 350 كيلوغراماً عن السنة التي قبلها، لذا بات يعتقد أن عليه البحث عن عمل آخر الآن لأنه لا يستطيع البقاء معتمداً على المزرعة وحدها. 
يقول علي رضا قريشي ممثل برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة في العراق ان المزارعين يحتاجون إلى المساعدة كي يتمكنوا من التكيف مع تغيرات الظروف من خلال اجراءات مختلفة مثل تبني زراعة أصناف المحاصيل المقاومة للجفاف واستخدام افضل لأنظمة الري بالتنقيط. 
يضيف علي أن ضعف الوعي في العراق بحجم التهديد الذي يمثله التغير المناخي ومواصلة استخدام الممارسات ذاتها التي كانت تستخدم منذ قرون عاملان مهمان في بطء حدوث التغيير.
يمضي علي فيقول: “لا يزال المزارعون في معظم الاحيان يستخدمون طرقاً عمرها قرون، في ذلك الزمن لم يكن الماء بهذه الندرة ولا المناخ بمثل هذه الحرارة”.
لأجل مواجهة درجات الحرارة المتصاعدة ونقص المياه لجأ قاسم إلى محاولة تظليل بعض محاصيله كما يقوم بشراء مياه الشرب ويمزجها بماء الحنفية لري نباتاته، وهذه خطة باهظة التكاليف وغير قابلة للاستمرار. كانت مزرعة قاسم تستمد ماءها في العادة من شط العرب المجاور، ولكن مستوى النهر انخفض الان كثيراً ولم يعد بالوسع استخدامه لري الحقول والمزارع.  تفيد تقديرات البنك الدولي بأن العراق سوف يشهد بحلول العام 2050 تدنياً في المياه المتاحة بنسبة 20 بالمئة، وهذا معناه أن ثلث الأراضي المعتمدة على الري سوف يفتك بها
الظمأ.
 
هل سيتحتم علينا الرحيل؟
في نقطة ابعد عند أعالي النهر تقع قرية القرنة، حيث يبدأ تكون شط العرب من التقاء نهري دجلة والفرات، لا تزال كثير من حقول الحنطة تزهو بخضرتها، ولكن هناك حقولا اخرى جثمت عليها عواصف الغبار
مؤخراً.
يقول هادي بدر الملاكي، 57 عاماً، مشيراً الى يده صوب حقوله التي حل بها الخراب: “اذا ما هلكت الحنطة فقد قضي
الأمر”. 
يضطر هادي، وهو مزارع بالمقياس الواسع، إلى مواجهة مشكلة تزايد الملوحة في التربة ايضاً بسبب سوء أعمال البزل، الأمر الذي أرغمه على ترك اجزاء من ارضه البالغة مساحتها 5000 دونم بدون زراعة. يقول هادي إن هذه المشكلات أدت إلى انكماش دخله بمقدار 10 آلاف دولار في الموسم الماضي مقارنة بالسنة التي
 سبقته.
يتساءل هادي بحيرة: “أشعر بالقلق من المستقبل .. هل سنضطر جميعاً للرحيل؟ هل سيضطر ابنائي كلهم للبحث عن وظائف حكومية؟” مشيراً إلى ان ولده الأكبر يعمل بالفعل في وظيفة أمنية خارج المزرعة، ولو أنه يعود اليهم للمساعدة في العمل
بالأرض.
تقول “كارولين زولّو” المستشارة السياسية في المجلس النرويجي للاجئين أن نصف مزارعي الحنطة في المناطق القريبة من القرنة قد فقدوا محاصيلهم بالكامل في الموسم الزراعي الأخير. هذه الخسائر حملت المزيد من الناس على النزوح، وهؤلاء عادة ما يهجرون مهنة الزراعة نفسها.
في وقت سابق من العام الحالي تخلى حيدر صباح راضي هو الاخر عن مزرعته البالغة مساحتها 75 دونماً وانتقل إلى قرية القرنة، على بعد ثمانية كيلومترات، مصطحباً معه زوجته وأطفاله الستة ليعمل هناك سائق سيارة أجرة. في الصيف الماضي باع كل ما عنده من مواشي، بما في ذلك 90 بقرة و200 نعامة، لأنه لم يعد قادراً على إطعامها.
يقول حيدر: “نحن لا نتلقى اي دعم حكومي”. ويضيف أنه يتولاه القلق لئلا ينشأ أطفاله بعيداً عن الأرض وحياة المزرعة.
جاء في تقرير شهر كانون الثاني الماضي الصادر عن منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن اكثر من 90 بالمئة من مربي المواشي في العراق قد عانوا كثيرا في شهر تشرين الأول، من اجل الحصول على الماء او شراء الأعلاف لمواشيهم بسبب
 الجفاف. 
 
توترات المدينة
ظاهرة النزوح المتزايد إلى المدن بسبب المناخ يمكن ملاحظتها منذ الآن في تصاعد التوترات في المناطق المدنية نظراً للتنافس على الوظائف والموارد، الأمر الذي كثيراً ما يسفر عن نشوب نزاعات اجتماعية واتساع فوارق الدخل، كما يقول قريشي من برنامج الغذاء العالمي. 
يقول عبد الحسن العبادي رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في البصرة أن الدعم الحكومي، بما فيه التعويض عن تلف المحاصيل، أمر أساسي بالنسبة للفلاحين كي لا يهجروا أراضيهم. عدم تأمين ذلك، كما يحذر العبادي، من شأنه إلحاق ضرر بالاقتصاد الأوسع حين يتخلى المزارعون عن أراضيهم ويضطر البلد لاستيراد الغذاء من
 الخارج.اشتد هذا التحدي بشكل خاص عندما تسببت الحرب الأوكرانية الروسية بتضاؤل الصادرات من اكبر بلدين منتجين للحنطة، ما أدى إلى ارتفاع اسعارها ارتفاعاً شاهقاً وكذلك سائر السلع المستوردة الأخرى.
الحكومة العراقية من ناحيتها تساعد بعض المزارعين من خلال امدادهم ببذور أصناف من الحنطة المضربة المصممة لتحمل ملوحة التربة والرياح والعواصف الترابية. لكن مجتبى نوري رئيس قسم البحوث التابع لوزارة الزراعة في القرنة، يقول إن مزارعي الحنطة لا يحصلون جميعاً على هذه البذور، وجانب من السبب هو انهم ليسوا مهيأين لتطبيق قواعد الوزارة حول كيفية زراعة الاصناف
الجديدة.
يقول العبادي، من اتحاد الجمعيات الفلاحية في البصرة، أن 20 بالمئة من مزارعي الحنطة في البصرة قد تمكنوا من شراء البذور الهجينة حتى الان. ثم يمضي معبراً عن استقراءاته للمستقبل فيقول: “يجب أن يحقق المزارعون أرباحاً، وما لم يكن هناك دعم جدي من جانب الحكومة بالبذور فإن أولئك المزارعين سيبقون يخسرون عاماً بعد عام”.