أول من أسس لمسرح الدمى تصميماً وتحريكاً في العراق .. طارق الربيعي وأنور حيران.. تاريخٌ حافلٌ بالمنجز الفني

منصة 2022/05/19
...

  د. زينب عبد الأمير
كلنا يعلم من الذين عاصروا المشهد الفني والثقافي للنصف الثاني من القرن العشرين، ما قدّمه الثنائي الراحل طارق الربيعي وأنور حيران للتلفزيون والمسرح في مجال فنون الدمى من برامج وعروضٍ مسرحيَّة استقطبت الأطفال والكبار على مدى خمسين عام بدءاً من تأسيس تلفزيون العراق عام 1956، تاريخ طويل حافلٌ بالمنجز الفني يستحق منا كل الثناء والتقدير.
وبقي ما قدّمه الثنائي من فنٍ راسخاً في وجدان وذاكرة المشهد الثقافي والفني، بل كان ممهداً وملهماً لما لحقه من تجارب فنيَّة في حقل فنون الدمى، إلاّ أنَّ البعض وصف هذه التجارب المهمة بأنها تجارب بسيطة مارسها هواة باجتهادات شخصيَّة متعثرة، وهنا لا بُدَّ لي أنْ أقفَ وأعرجَ على ما قيل وما زال يقال حتى يومنا هذا.
 
برنامج القره قوز
إنْ كان البرنامج التلفزيوني المشهور (القره قوز) الذي كان يقدّمه ويعدُّ فقراته ويصنع دماه ويحركها الثنائي، هو تجربة بسيطة وعابرة، فلِمَ استمر عرضه لما يقارب الخمسين عاماً؟ لمَ نال الثنائي (الربيعي وحيران) استحسان الأطفال والكبار معاً آنذاك من خلال ما قدّماه من مسرح وتلفزيون؟ نعلم أنَّ التخصص عبر الدراسة مهمٌ وأنا من أنصاره ولكنَّ المهارة والتخصص عبر التدريب المستمر فضلاً عن الموهبة أهم، فكلٌ من الربيعي وحيران يمتلكان من المهارة والموهبة التي افتقدها ويفتقدها الآن الكثير من الذين يطلقون على أنفسهم فنانين مختصين، إذ نرى الفنان طارق الربيعي كان ممتلكاً لموهبة الغناء وتقليد الأصوات ومهارة تحريك الدمى وصناعتها، فضلاً عن موهبته ومهارته في الإعداد والتأليف ومنجزه يشهدُ له بذلك، كما أنَّ أنور حيران كان يمتلك مهارة صناعة الدمى وتحريكها فضلاً عن موهبته الربانيَّة في تقليد طبقة صوت الاراجوز المصري من دون الاستعانة بالأداة التي يطلق عليها بـ(الزمارة) وشهد له بذلك الفنان طارق الربيعي والفنان المصري محمود شكوكو من خلال العديد من اللقاءات التي جمعتهم داخل العراق وخارجه في جمهوريَّة مصر العربيَّة، وفضلاً عن ذلك كله لم يكن لهذا الثنائي داعمٌ حقيقيٌّ، ولم يكن قبله ممن يمتلكون الخبرة في مجال فنون الدمى على مستوى التصميم والتنفيذ والتحريك والتقنيات الأخرى كي يستفيد من خبرتهم، ومع ذلك استمر الثنائي يؤسس لمسارات فنيَّة أقل ما يقال عنها إنَّها رائدة كونها سابقة لزمنها في العراق وأعني هذه الجملة.
 
تكريم المبدعين
كما أتساءل وأوجه لوماً كبيراً لكل من قلّل ويقلّل من قيمة ما قدّمه الثنائي من منجزٍ فنيٍ على مدار عشرات العقود، لماذا لا نفخر بمبدعينا من الفنانين الفطريين عبر التاريخ اسوة بأشقائنا العرب؟ فنجد الفنان المسرحي المصري الدكتور نبيل بهجت احتفى وبفخر بشيخ لاعبي الأراجوز صابر المصري المشهور بـ (عم صابر) بوصفه عضوًا مؤسسًا من أعضاء فرقته المسرحيَّة (فرقة ومضة لخيال الظل والاراجوز المصري)، علاوة على التكريمات التي نالها العم صابر سواء من الهيئة العربيَّة للمسرح عام 2015، أو من الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة عام 2016 وغيرها من التكريمات، والسرُّ في ذلك هو محبة واحترام وتقدير الجمهور المصري من النخبة والعامَّة لفنون عم صابر وعشق الأطفال له، وكذلك نمرُّ على تجربة الفنان المسرحي مؤسس فرقة (مسرح صندوق العجب) في فلسطين، الفنان عادل الترتير الذي استمرت مسيرته الفنيَّة في العطاء لأكثر من خمسين عاماً، ويشهد له الكثير لما قدّمه من فنٍ هادفٍ عبر صندوقه العجيب (صندوق العجب) وهو مسرحٌ متجولٌ ليس له عنوانٌ ويعيش بين الناس وبخاصة الفقراء، وغيرهم الكثير من الفنانين الذين وهبوا حياتهم للفن بإخلاص، بل إنَّ أغلبهم ومنهم الفنان الراحل طارق الربيعي كانوا ينفقون على أعمالهم من جيبهم الخاص حرصاً منهم على تقديم كل ما هو مبهرٌ 
وقيّم.
ولكي لا أبتعد كثيراً عن فحوى ثريا النص بِعدّ الفنان الراحل طارق الربيعي رائداً لأول عمل دمى مسرحي موجّه للكبار، فسأستعرض في بادئ الأمر بعض معاني مفردة الريادة في معاجم اللغة، منها أنها عمليَّة إنشاء شيء فريد له قيمة، والرائد هو كشّاف، أول من ينطلق في مشروع ويقتحم ميدان عمل، من يشق طريق التقدم ويمهد السبيل للآخرين... ولو أسقطنا هذه المعاني على أهم أو مجمل ما استطعت أنْ أحصلَ عليه من معلومات قمت بتسجيلها للفنان طارق الربيعي ووثائق تاريخيَّة ورقيَّة وصور عبر زياراتي المستمرة له قبل تردي وضعه الصحي، وما حصلت عليه من الذين عاصروه، لوجدنا أنَّ كلاً من الربيعي وحيران كانا رائدين في فنون الدمى على مستوى التلفزيون والمسرح، كما أنَّ ما جادت به عليّ دار الوثائق الوطنيَّة من ارشيف ورقي وثّق الكثير من الأحداث والوقائع التي نحن بأمسّ الحاجة إليها الآن حفاظاً على مصداقيَّة التاريخ، كان لها الفضل الكبير في تقصي الحقائق بهذا الشأن، لا سيما في عصرنا الراهن الذي يشهد من يزيفون الحقائق وينسبون لأنفسهم أو لغيرهم ريادة فن أو عمل ما! في ظل ضياع الجزء الكبير من الارشيف في المؤسسات والدوائر المعنيَّة بالشأن الثقافي 
والفني.
 
موهبة وولع
كانت بدايات انطلاق رائد فنون الدمى في العراق الفنان الراحل طارق الربيعي من برنامج القره قوز وهو برنامج تلفزيوني كما نعلم استمر عليه بما امتلكه من موهبة وولعٍ بهذا الفن منذ العام 1956، وفي العام 1967 قرر الثنائي الذهاب الى القاهرة ليطور ويصقل موهبته في صناعة الدمى وتحريكها، فضلاً عن تطوير خبرته في كل ما يتعلق بهذا الفن، وفعلاً استطاع الثنائي تحقيق حلمه بالذهاب الى مسرح القاهرة للعرائس في الازبكيَّة وإجراء معايشة فيه لثلاثة أشهر، إذ تتلمذ هناك على يد الفنان المصري الراحل (صلاح السقا) من خلال اوبريت (الليلة الكبيرة) على المسرح الدائري، كما زار الثنائي معهد التلفزيون العربي وتدرب فيه على صناعة دمى الماريونيت على يد الفنان المصري الراحل (الفريد ميخائيل) رئيس قسم الدمى في المعهد، فضلاً عن الخبرة التي اكتسبها في صناعة الدمى على يد الفنان المصري الراحل (د. ناجي شاكر) مصمم ومبدع دمى اوبريت (الليلة الكبيرة)، وبهذا كان للتجربة التدريبيَّة التي عاد بها طارق الربيعي من القاهرة دورٌ كبيرٌ في إثراء ذائقته البصريَّة والسمعيَّة على مستوى تقنيات الإخراج والإعداد والتأليف، فضلاً عن الخبرة في صناعة وتحريك دمى الماريونيت والذي نتج عنه تأسيس مسرح جوال سميّ بـ (مسرح بغداد للعرائس) والذي قدّم العديد من العروض المسرحيَّة كان أغلبها دمى الماريونيت الى جانب دمى القفاز وكان من بين العروض المسرحيَّة التي قدّمها الثنائي عرض اوبريت (الليلة الكبيرة) على قاعة الشعب الكائنة في باب المعظم في بغداد.. لا سيما أنَّه تدرب عليها في القاهرة.
هذا ما ورد في ملف السيرة الذاتيَّة الذي سلمني إياه رائد فنون الدمى في العراق الفنان طارق الربيعي والذي سأعرضه على حضراتكم بوصفه وثيقة في ملاحق كتابي الذي سيصدر قريباً والذي يتناول تاريخ فنون الدمى في العراق، علماً أنَّ قاعة الشعب جمعت في فضائها كثيراً من الأنشطة الثقافيَّة والفنيَّة ومنها ما قدّمته فرقة (الدمى الصينيَّة الشعبيَّة) التي زارت بغداد آنذاك، وبهذا قدّم طارق الربيعي عرضاً مسرحياً بالدمى لمتلقين من الكبار ولم يكتف بذلك، بل بادر عبر فرقته المسرحيَّة الجوالة لتقديم عروضٍ مسرحيَّة اتسمت بطابعها الفولوكلوري العراقي الخاص ومنها العروض المسرحيَّة التي قُدّمت بالدبكة العربيَّة والدبكة الكرديَّة للمتلقين من الكبار وكانت الدمى فيها من نوع الماريونيت أيضاً ومن تصميمه وتنفيذه، الى جانب منوعات العرائس التي تتمثل بفرقة موسيقيَّة من دمى الماريونيت مكونة من مطرب وعازفين لمختلف الآلات الموسيقيَّة ومنها عازف الناي والطبلة والقانون، أما أوبريت (أحلام السعادة) الذي قُدّم ضمن برنامج (مسرح بغداد للعرائس) بوصفه مسرحاً تلفزيونياً، فقد كانت دماه ماريونيت من تصميم وتنفيذ الفنان التشكيلي الراحل الدكتور (ناجي شاكر).
 
الاحتفاظ بالدمى
ولكن لسوء الحظ لم يتمكن الفنان الراحل طارق الربيعي من الاحتفاظ بكل هذه الدمى، إذ تعرض أكثرها للتلف والضياع بسبب ظروف التهجير التي تعرضت لها أسرته بعد أحداث عام 2003، فضلاً عن الأحداث المروِّعة التي تعرضت لها المؤسسات الرسميَّة المعنيَّة بالشأن الثقافي - ومنها مبنى تلفزيون العراق- في ثمانينيات القرن الماضي من قصف وهجوم صاروخي ابان الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة، وما لحقتها من أحداث سياسيَّة ساخنة، أسهمت في تلف وضياع العديد من المقتنيات فضلاً عن 
الارشيف.
أخيراً فإنَّ مقالي هذا وما سيليه من سعي توثيقي، ما هو إلا دينٌ كبيرٌ أحاول أن أردَّه رويداً رويداً لمن لم يحظوا بالاهتمام الذي يليق بمنجزهم الكبير إعلامياً، بل لم يحظوا بالفرص الكبيرة التي أتيحت لأمثالهم في البلدان العربيَّة، ولعلَّ ذنبهم الوحيد في ذلك هو انغماسهم وحبهم لهذا الفن وتلقائيتهم فيه بعيداً عن تداعيات الشهرة، وأنَّ مهمتي بل مسؤوليتي تجاه هذا الفن تجعلني أبحث وأبحث لأجد المعلومة وأرفع الغبار عنها لتغدو شاهداً تاريخياً على عصرها، وما زال البحث جارياً رغم صعوبته.