الفارو سانتانا ترجمة / أحمد فاضل
في عام 1967 نشرت مطبعة سود أمريكانا رواية “مئة عام من العزلة” وهي رواية كتبها كاتب كولومبي لم يعرف وقتها كثيراً يدعى غابرييل غارسيا ماركيز، كان لا يتوقع وقتها هو أو الناشر أن تحوز الرواية ذلك النجاح الكبير الذي حققته كما قال عنها أحد عمالقة النشر ألفريد أ. كنوبف :
“ إن العديد من الروايات ماتت في اليوم الذي تم فيه نشر رواية “مئة عام من العزلة “ وبشكل غير متوقع”.
حققت الرواية بيع أكثر من 45 مليون نسخة وعززت مكانتها بوصفها إحدى الروايات الكلاسيكية الأدبية في عصر ما بعد الحداثة وحصد غارسيا ماركيز شهرة وإشادة بوصفه واحدا من أعظم الكُتاب باللغة الاسبانية في التاريخ الحديث، ولكن في ستينيات القرن العشرين المنصرم لم يُعترف بالرواية على أنها أحد أشهر الأساليب الأدبية المعروفة الآن باسم “الواقعية السحرية” والذي يقدم أحداثاً رائعة للحالات الدنيوية، كما لم يتفق النقاد على أن القصة كانت حقا رائدة في هذا المجال، ومن أجل الوقوف على أهمية وريادة هذه الرواية على الصعيد العالمي، من الضروري دراسة العوامل التي ساعدت في التغلب على مناخ ناشر صعب وعدم الكشف عن هويته في ذلك
الوقت .
في عام 1965، كانت شركةSudamericana Press الأرجنتينية ناشراً رائداً لأدب أميركا اللاتينية المعاصر تبحث عن مواهب جديدة في كتابة الرواية، فتقدم غارسيا ماركيز بكل حماسة يحمل معه روايته التي قال لأحد محرري الشركة أنّها تحمل عنوان “ مئة عام من العزلة” وهي رواية طويلة ومعقدة جداً، وقبل شهرين ونصف من إطلاقها في عام 1967، تحول حماس غارسيا ماركيز إلى خوف معترفاً بالوقت نفسه بعدم انتظام ضربات القلب بسبب عصبيته التي كادت تودي به إلى أن يصاب بنوبة قلبية حيث اعترف بذلك في رسالة إلى أحد أصدقائه جاء فيها :
“ أنا خائف للغاية وقد أموت في أي لحظة بانتظار ما ستؤول إليه روايتي”.
صناعة النشر
استند خوف ماركيز إلى حقيقة قاسية أنّ صناعة النشر تعتمد بالدرجة الأولى على اسماء كُتاب بارزين ولأن تجربته في بيع كتبه الأربعة السابقة كانت أقل من 2500 نسخة في المجمل وأفضل ما يمكن أن يحدث لروايته هو اتباع مسار شبيه بالكتب التي صدرت في الستينات كجزء من الحركة الأدبية المعروفة باسم la nuevanovelalatinoamericanaوالتي حققت مبيعات وشهرة كبيرة على الصعيد المحلي والعالمي، كان هذا هو المسار الذي اتخذته رواية ماركيز وروايات أخرى جديدة لكُتاب أميركا اللاتينية في الستينيات من القرن المنصرم، مثل “ انفجار في الكاتدرائية” للروائي أليخاندرو كاربنتير، و”وقت البطل” للروائي ماريو فارغاس يوسا، و “ومئة عام من العزلة” بالطبع، حيث طغت على كل تلك الأعمال السابقة ونُشرت الرواية بأربع وأربعين لغة، وهي لا تزال أكثر الأعمال الأدبية المترجمة باللغة الإسبانية بعد “دون كيشوت”، وقد صنفها استبيان لإحدى أشهر الشركات المهتمة بالنشر، أن الرواية قد شكلت مساراً رائعاً وكبيراً في الأدب العالمي على مدار العقود الثلاثة الماضية .
قيود الاساليب الروائية
وبين عامي 1967 و 1969، جادل النقاد بأن “مئة عام من العزلة” تغلبت على قيود الأساليب الروائية القديمة ومنطلقة نحو العالمية مكنها هذا من “تصحيح مسار الرواية الحديثة “وفقا للناقد الأدبي الأميركي اللاتيني أنجيل راما على عكس لغة الوقائع الاجتماعية المختصرة، فقد كان نثر غارسيا ماركيز مليئاً باللغة الشاعرية، كما وصفت الكاتبة الإيطالية ناتاليا غينزبورغ “مئة عام من العزلة” قائلة هي “رواية حية” لتهدئة المخاوف المعاصرة، ومع ذلك لاحظ البعض من النقاد أن الرواية لم تكن عملاً ثورياً بل كانت تقليدا لما سبقها من روايات، وبدلاً من رواية جادة كانت “تحفة كوميدية” كما كتب أحد النقاد لمجلة التايمز الأدبية في عام 1967 .
كانت وجهات النظر المبكرة حول هذه الرواية مختلفة بالفعل عن تلك التي تلت ذلك، ففي عام 1989 وصفه عالم الأدب في جامعة ييل هارولد بلوم بأنّه “دون كيشوت الجديد”، أما في الوقت الحاضر فيثني العلماء والنقاد والقراء عامة على الرواية بوصفها “أفضل تعبير عن الواقعية السحرية”، علاوة على ذلك تم تقديم ماركيز على أنه “عنصر لا يمكن فصمه، ولا يمكن فصله عن الوجود الإنساني”، وفقاً لما ذكره الناقد الأدبي في صحيفة نيويورك تايمز ميتشيكو كاكوتاني، وكتب وليام كنيدي لمجلة المراقب الوطني أنّه “أول كتاب أدبي منذ كتاب التكوين يجب أن يكون مطلوباً للقراءة لكل الجنس البشري” ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن الكُتاب والناشرين كانوا من بين العديد من منتقدي هذه الرواية حيث أعلنت إحداها أن نص “مئة عام من العزلة “ سرق رواية بلزاك الصادرة عام 1834 بعنوان “السعي إلى المطلق”، بينما رفض كارلوس بارال استيراد الرواية وكتب في وقت لاحق “لم تكن أفضل رواية في عصره”، في الواقع الانتقاد المتأصل يساعد على جعل العمل الأدبي مثل “مئة عام من العزلة” أكثر وضوحاً لأجيال جديدة من القراء ويسهم في نهاية المطاف في تكريسها .
عاش ماركيز بسعادة كبيرة وهو يرى روايته تحوز على الاعجاب أين ما عرضت في مناطق واسعة من العالم، لكنه لم يعش ليشهد الاحتفال الكبير بالذكرى الخمسين لصدور روايته فقد توفي عام 2014، لكن ذكرى روايته الشهيرة ظلت عالقة في نفوس ملايين القراء والمعجبين به فقد افتتح مركز هاري رانسوم في أوستن تكساس قاعة كبيرة لحفظ أرشيف غارسيا ماركيز منذ عام 2015، ومن بين المحتويات ستكون النسخة الأصلية من “الرواية الطويلة جدا والمعقدة جدا” التي لم تَمُت، ولكنها حققت الخلود في اليوم الذي تم نشرها
فيه .
عن / مجلة اتلانتك الأميركية