د. رسول محمد رسول
يوحي عنوان الديوان الأول للكاتبة والشاعرة السورية فاتن حمودي (قهوة الكلام) بتوليد رغبة وجودية في اجتراح العلاقة مع الواقع الموضوعي من حولنا، لا سيما أن العنوان يضج بانزياح شعري أو عدول مجازي عابق بالتواصل؛ فالقهوة تستدرج (الآخر)؛ كلام الآخر، مثلما تستدرج (الذات)؛ ذات الشاعرة، لكي تتكلَّم سواء مع ذاتها هي أو مع غيرها وإن كان كلامها صامتاً من الناحية الأنطولوجية، فلا يوجد كلام إلّا ضمن تواصلية الوجود بحراكه الشامل أو بوحدته نافرة الحضور، لكنّها تواصلية تمضي في دروبها الأنثوية، هذه المرّة، وفق تمثلات ما تريد قوله الشاعرة كأنثى آثرت قول صوتها إبداعاً شعرياً.
يضم هذا الديوان الصادر عن دار الكواكب في بيروت اثنتين وعشرين قصيدة بعد الإهداء بواقع 125 صفحة من القطع المتوسط. لم تلجأ حمودي إلى أرخنة قصائدها، ولكن، وبما أن هذه هي مجموعتها الشعريّة الأولى، فإن قصائدها أدلقت في أوقات متقطعة ماضية بعضها طويل الجسد مثل قصيدة “شناشيل” التي يصل تعداد مقاطعها إلى ثلاثة وثلاثين مقطعاً مرقماً، وكذلك قصيدة “ريشة” التي جاءت إلى سبعة عشر مقطعاً، ناهيك عن قصيدة “وجوه” التي يصل تعداد مقاطعها إلى عشرة، وقصيدة حالات ومقاطعها اثنا عشر، وغيرها من النُّصوص قصيرة الوجود كالكثير من قصائد الديوان الأخرى.
بدت عنوانات قصائد الديوان مكثَّفة الدول؛ فهناك إحدى عشرة قصيدة حملت ملفوظاً عنوانياً واحداً (كلمة واحدة)، بينما حملت عناوين سبعة قصائد ملفوظين (كلمتين)، والبقية آثرت الظهور بمفردات ثلاث كالقصيدتين “هل أخطأنا الطريق؟”، و”مُدانة بحزني أنا”، أما قصيدة “لي فيك يا بردى” فعنوانها هو الوحيد الذي جاء إلى أربعة مفردات، ولكن، ومهما يكن التعدُّد نلاحظ أن جميع العناوين بدت مكثَّفة الدلالة بحسب المعادل المدلولي لمضامين القصائد في الديوان كل حسب كونه
الدلالي.
توافرت قصائد الديوان على تجريب لغة شعريّة يعلوها صوت الانزياح عن لغة مألوفة قد تفرض وجودها على قاموس الشاعرة في حالات عدَّة لكنّها - الحالات - التي لا تأتي إلى أثر يثلم بنية اللغة الشعريّة. لهذا، تستدرج الناصَّة أو فاتن حمودي المفارقة في ملفوظات عدة ربما القصد منها استدراج القارئ إلى حبائل كونها الشِّعري مثل “للضرورة أحلام” (ص 9)، و”وجه يتثعلب.. يرتدي الفصول” (ص 11)، و”غريبة أنا وللغربة نباح!” (ص 13)، ومن ثم “في سماوات الغفلة” (ص 14)، وأيضاً “ما زلتُ أجلسُ على نهر الغصة” (ص 22)، إلى غير ذلك من المعاني المعدولة عن أصلها المعجمي صوب مجازات الكلام في قصائد الديوان الأخرى.
تعود الشاعرة إلى همس الولادة والجرح الأول على صعيد تسريد حالتها الوجودية: “أنجبتني أمي ذات ربيع، حملتني تيجان الزهر، ريشة الضوء، بسمة الغزلان الشاردة، جنون العاصفة، وها أنا أمرَّ بجمر السؤال..” (ص 18)، حتى تقول في القصيدة ذاتها: “يمر الربيع بلا ربيع” (ص 18)، وفي ذلك بوابة مشرعة لقول ما تعيشه اللحظة الراهنة من وهن وضياع والتباس وألم وقلق وتيه؛ فالموتى؛ “لا قبور لهم، مثل ليل الشام، ونهاراتها، مثل صوت أمي ممرغاً بالغياب” تقول فاتن (ص 20)، هذا الغيابُ الذي أمسى حزناً لاذع الطيّات؛ فحتى وهي نخاطب حبيبها تقول له: “أنتَ الشام وبردى الذي كان” (ص 27)، ولعلّ الذي “كان” هو ليس ما هو كائن الآن؛ ذلك أن “كل شيء موحش، لا تفتحي نافذة الليل فيلسعك غيابه، وتلسعك الوحدة، لا تفتحي النافذة على ليل دمشق” (ص ص32) ليبقى “عازف الناي” تقول الشاعرة: “حزينٌ مثلي.. أنا التائهة”، وذلك في مطلع قصيدتها التساؤلية (هل أخطأنا الطريق؟) (ص 36)، لتنظر حولها فتجد أن البرد وقد ضاق بها ومنْ معها؛ بل “ضاقت الأرضُ” به، وأصبح الموتى في “القطار يطلون من النوافذ ملوِّحين بالوداع، غربانٌ على المدينة، فعلى أي هامش نقف؟ وعلى أي قبر نرثي ما بقي من غناء؟” تسأل في قصيدتها ذاتها (ص 38).
في كل حالات ما يجري، تبقى (الشام) جرحاً لا يندمل، ففي قصيدة (لي فيك يا بردى) تواصل الشاعرة، بوصفها ذاتاً أنثوية تفتقد إلى استقرار وجودي ينماز به وطنها المعذَّب، تواصل تأشير حالة هذا الوطن الذي يأخذه التمزق والانفلات من قبضة الأمل بعيش رحب فتقول: “ليس للعين إلّا أن تتابع خطوات الريح، وجه الشام يدفعني إلى البكاء، هل كان عليها أن تشيخ؟” (ص 41)، لاسيما أن السؤال يتوجَّه وجودياً صوب (نهر بردى) حتى تخاطبه: “أربعون سنة وأنتَ تركض منفياً من إشراقة قمر، كلما وضعت رأسي على ضفة السؤال.. تراءى لي السراب” (ص 41)، فواقع الحال يشي بالخراب، إذ لم يعد “مركبُ ولا ياسمين، لم يعد نهرٌ يتذكَّر مجراه، أدور على كعبي، أرتدي قميص الغياب، كنت منكسراً وأغني.. لي فيك يا بردى.. لي فيك يا بردى، ياااااااااااااااابردى” (ص 47).
في قصيدة (غبار) يبدو الإحساس بما يجري متصاعد الخطى، والمأساة تدب في أنسجة ما يجري، فالذات الشاعرة تحطم أسوار الغرفة ليدخل الغبار وتترك بابها مفتوحة لمدمري اللحظة: “سأترك نوافذي مفتوحة للغبار، وأترك بابي مفتوحاً للصوص والمتسولين، سأترك الشوارع لأقدام التائهين والمشرَّدين، والمساجد للمقطوعين، أترك الأسئلة تمرُّ دون أجوبة” (ص 81)؛ ذلك أنه “ما من أحد يستطيع أن يلمَّ الأحلام التي أخذها الخريف” (ص 83)، فلقد أفضت حالة الذات “مترفة بالتعب.. هنا وهناك” (ص 87)، والطريق أصبح “بلوى” (ص 90)، والشام هناك تبكي حتى تقول: “أبكي عليك يا شام، أصهل، أركض.. أركض في كل الجهات” (ص 93)، لتستحيل الذات الشاعر مدينة، ولكن “مدينة محاصرة” (ص 93)، فما “الذي يبقى منّا؟” تتساءل فاتن حمودي في قصيدة (حالات)، لتخاطب ما تبقى قائلة: “احمل خرجَ غربتك، خيمتك، واحص منافيك” (ص 99)، فهي “براري الوجع”
(ص 103).
أخيراً، تبدو تجربة الكاتبة السورية (فاتن حمودي)، المقيمة في أبوظبي منذ سنين طويلة، وعبر ديوانها الشِّعري الأول (قهوة الكلام)، أنها تجربة عابقة بأكثر من ألم وحنين وشكوى من الناحية الموضوعاتية، كما أنها تبدو متنوّعة من حيث تجريب الكتابة الشعريّة، خصوصاً أن الطابع الحكائي يعلو صوته في أغلب القصائد ما جعل من القصيدة عندها ذات أفق غنائي يمور به الوطن كما تمور الذات الأنثوية في مسرح وجودها.