احتفاءٌ نقديٌ برؤى عراقيَّة للمسرح الملحمي

منصة 2022/05/26
...

   أ.د. حسين علي هارف
لقي منهج بريشت ومسرحه الملحمي حماسة في تبنيه واستلهامه على المستويين الشرقي والعربي، لما لهذا المنهج المسرحي المتفرد من خصوصية درامية وفكرية ملائمة، لتلك الشعوب التي هي أحوج ما تكون إلى التنوير والتغيير.
 
لقد أثبت هذا المنهج الذي استحال إلى نظرية مكتملة الأركان والأهداف والمفاهيم، ومن الناحيتين العلمية والتطبيقية، أنه المنهج الأصلح والأبقى والأكثر فاعلية للمجتمعات العربية وثقافاته وللمسرح العربي، الباحث عن هوية وخصوصية له ولجمهور هذا المسرح بالغ الخصوصية (اجتماعيا ومعرفيا ونفسيا).
أين تكمن خصوصية منهج بريشت؟ أنها في عدم تسليمه بكل التقاليد والثوابت التي سبقته وبالمحددات الوظيفية، التي انيطت بمسرح عدّه بريشت (برحوازيا تخديريا)، فلقد قام برتولد بريشت في حقيقة الامر بثورة حقيقية في عالم المسرح، الذي سار على المنهج الأرسطي طوال قرابة عشرين قرنا. 
لقد أعاد النظر في كل ما تكرس من قبله في فن المسرح (آليات النص/ تقنيات العرض/ اسلوب التمثيل/ العلاقة مع الجمهور)، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد أعطى للمسرح وظيفة جديدة ومغايرة تماما بعيدا عن وظيفة التطهير والتأثير العاطفي، اذ اقترح علاقة جديدة مع الجمهور، بعيدا عن الاندماج والتعاطف واقترح أن يكون المسرح تنويريا تحريضيا يدعو المتفرج إلى التأمل والتفكر واتخاذ موقف ازاء ما يشاهد على المسرح وما يجري في واقعه.
بذلك يكون بريشت قد جاء بنظرية جديدة قلبت موازين المسرح العالمي، الا وهي (نظرية المسرح العالمي)- حسب ما شاع وتم تداوله- والتي هي في حقيقتها (نظرية المسرح الديالكتيكي)، وفقا لما اقترحه بريشت في ما بعد تصحيحا وتطويرا.
ولقد استندت نظرية بريشت (الملحمية الديالكتيكية) وطروحاته المبتكرة إلى دعائم فنية وفكرية أساسية (التغريب/ الجيست/ السرد/ الروي/ اللا ايهام).
لقد ميّز بريشت مسرحه الملحمي بطابع تعليمي أخلاقي (اجتماعي- سياسي) حتى أنه جوبه بالاعتراض من قبل الكثير من النقاد والمتابعين، زاعمين أنه أخلاقي أكثر مما يجب، ومع ذلك فإن الوعظ الأخلاقي قد انسحب في المسرح الملحمي (الديالكتيكي) إلى المرتبة الثانية من حيث الأهمية، فالمسرح الملحمي لا يرمي الى وعد الناس بالأخلاق بقدر ما يسعى الى تعليمهم أياها عبر التجربة.
يقول بريشت في هذا الصدد: (اذا ما توخينا الدقة فبإمكاننا أن نقول إنه ليس من الضروري أن نضع مفهومي التعليم والتسلية في طرفين متناقضين.. إن التعارض بينهما لم يكن موجودا كما إنه لن يكون دائما موجودا).
وبذلك يمكن القول إن توفير المتعة هي أنبل مهمة للمسرح من بين جميع المهمات، التي اتيح لنا تحديدها وفقا لبريشت.
ويطرح بريشت سؤالا مهما وهو: ما الذي يمكن أن يحصل في ما لو تعذر استخلاص المتعة من الأخلاق؟ ليجيب بعد ذلك: أن ذلك سيحط من مكانة المسرح!
ومن بين المسارح العالمية والعربية كان المسرح العراقي متفاعلا بدرجة كبيرة وعميقة مع هذا المنهج التنويري الثوري، الذي كان المنهج الأنسب والأكثر ملاءمة. 
فرغم أن مسرح بريشت الملحمي ألماني المنشأ والتكوين، إلا أنه امتلك جوانب ومساحات انسانية اقترحت وفتحت نوافذ مشرعة للتفاعل والتأثر والتأثير. 
وبذلك كان على مسرحنا العراقي أن يمتلك ويقترح رؤية جديدة ذات صبغة وطابع محلي في التعاطي مع هذا المنهج التجريبي المبتكر.. و هذا ما كان.
ولقد انتبه الاستاذ الدكتور بهاء محمود الجنابي في كتابه (المسرح الملحمي الالماني برؤية عراقية) الصادر مؤخرا عن  دار المأمون للترجمة والنشر، على هذا التفاعل الايجابي (الواعي) للمسرح العراقي مع طروحات بريشت و معطيات 
مسرحه (تنظيريا وتطبيقيا) ومحاكاتها برؤية عراقية، بعيدا عن الاستنساخ الأعمى والمحاكاة السطحية، فكانت له وقفات نقدية تحليلية تميزت بعلميتها مع تجارب عراقية استلهمت التجربة البريشتية. 
جاءت فصول الكتاب السبعة متسقة مع عنوان الكتاب وهدفه الساعي للكشف عن الرؤية العراقية لنظرية بريشت الملحمية وتطبيقات هذه الرؤية والتعريف بأصحابها 
ومنجزهم.
ولقد أفرد المؤلف الفصول الأولى من كتابه الرصين للتعريف بماهية المسرح الملحمي وبجوانب من سيرة العبقري برتولد بريشت وفرقته المسرحية الأشهر ( برلين انسامبل)، ليدخل في الفصل الثاني في صلب هدف الكتاب عبر الحديث عن جيل الرواد في المسرح العراقي ونظرتهم إلى المسرح الملحمي.
وفي الفصل الثالث تطرق المؤلف إلى العوامل التي أدت إلى نشأة المسرح الملحمي، معززا الفصل باجابات وافية لأسئلة مطروحة.. لماذا المسرح الملحمي، ولماذا التجربة البريشتية ومن هو برتولد بريشت؟. 
وقد وضّح المؤلف في فصوله اللاحقة بالشرح المعزز بالامثلة والتعقيب والتفسير وبأسلوب بيّن وممتع أركان التجربة الملحمية على المستويات التنظيرية والتطبيقية، واهم مفاهيم ومصطلحات نظرية المسرح الملحمي (السرد والتغريب).. لماذا التغريب؟ ماهي وسائل تحقيقه وفق النظرية الملحمية؟ وما هو دور المخرج في ذلك؟.
كتاب الدكتور بهاء محمود إضافةٌ معرفيَّة ثريَّة لمكتبتنا المسرحية، و حرثٌ في التجربة المسرحية العراقية المرتبطة بالنظرية الملحمية لرجل المسرح العبقري برتولد بريشت  وكشف عن عمق الرؤية النصية والإخراجية لكبار المخرجين العراقيين من جيل الرواد (المؤسس) والجيل الذي 
أعقبه.