للمرة الألف يقف هذا السؤال علامة استفهام عملاقة في الأفق اللامفتوح. وعندما يأتي ذلك الجواب، والذي أصبح لشدة استهلاكه باهتاً، فقيراً ومزوِّراً: المنتصرون. عندها تدرك كم هي العملة مزوَّرة، كم هي الأسماء ملمعة كأزرار نحاسية في معطف عسكري، وكم هي الحقيقة مغيَّبة.
وهنا نسأل مرة أخرى: أليس للمغيبين تاريخ مغيّب مثلهم، تاريخ الما حدثَ فعلاً، تاريخ تنمو قصته على الألسنة مثل أشجار طويلة دبقة ثقيلة متكاثفة وتتكاثر بالكلمات؟ عندها فقط تنفتح الذاكرة المجهَدة على أكثر من نهر، على أكثر من سماء، ولا يبقى في الحلق سوى الطعم المر للحقيقة.
الحياة، الذاكرة والحقيقة. تلك هي الأسئلة التي طرحها غسان الجباعي في روايته الأخيرة: "المطخ".
كان يا ما كان... كان هناك بلاد تنام على حلم وتصحو على وجع، وكانت في البلاد بركة ماء يدعونها المطخ، وكانت خزاناً حقيقياً للذاكرة، يشرب منها البشر والكائنات، يغتسل فيها البشر والكائنات، يذوب فوقها القمر تاركاً مصلاً من حليب ضوئي ورائحة عشق بعْل.
وكان الباشا يملك الماء والكائنات والقمر، وعندما ينحبس الماء وتتشقق الشفاه يصبح الماء ورقة بيد وفي اليد الأخرى سوط وسنابك
خيل.
قبل الماء كان هناك باشوات وسياط، بعد الماء بقي هناك بشاوات بربطات عنق
ونياشين.
قبل الماء كانت بيوت الفلاحين مُنارة بتعبهم، بآلام نسائهم وضحك أطفالهم المعفَّر بالتراب، بعد الماء بقيت البيوت مُنارة بالأيدي التعبى والأكعاب المشققة وسُقيت الحقول بالعرق ووقود التركتورات
والروث.
كان يا ما كان..كانت هناك بلاد.
هذه هي الحكاية، كما مرت في ذاكرة "أكرم"، الرسام التشكيلي والكاتب المغمور، الماركسي: صراع الفلاحين ممثلاً بعائلة "الثور" ضد الإقطاعيين ممثلاً بعائلة "آل الشامخ" المتنفذة في قرية تل الرماد.
هذه هي الحكاية، كما حورتها ذاكرة "أمير الشامخ" سليل العائلة الإقطاعية ذاتها، المخرج التلفزيوني المشهور، الهيغلي، لكن البراغماتي: استمرار الحفاظ على النفوذ والبقاء في الواجهة وحيازة السلطة.
هذه هي الحكاية كما رواها أكرم في رواية ضمن الرواية، تاريخ آخر فج واقعي لكنه حقيقي، ناصع بألوان مؤذية لكنها طبيعية، حقيقة روائية و/ أو رواية
حقيقية.
هذه هي الحكاية كما زورها أمير في عمله التلفزيوني المقتبس من الرواية "أزهار وجذور" فانتازيا تاريخية وألم تلفزيوني بألوان مشرقة .
هذه هي الحكاية كما صاغتها كلا الذاكرتين الحيتين، وكل منهما عايش ذات الأحداث الحقيقية للقصة.
الذاكرة، هي الثيمة الأساسية في الرواية، وذلك ما أكده الجباعي عبر عتبة الرواية المقتبسة من ماركيز، مصراً على حكائية الرواية نافياً تاريخيتها.
وهنا ينفتح السؤال عن التاريخ الآخر، عن النص الأدبي عندما يغدو تاريخاً.
ذلك أن التاريخ يحتاج إلى وثيقة، إلى ختم وإمضاء. بينما النص الأدبي يمارس تاريخيته الشرعية من خلال النص ذاته، من خلال الما حدثَ فعلاً، وما زال يحدث كاستمرارية الحدث في النص الأدبي الذي يرسم، يحدد ويشكل الوقائع التاريخية المحكية، ويغدو النص الأدبي هو الوثيقة وليس كتابة/ تاريخا عَـما حدث، بل كتابة ما حدثَ
فعلاً.
وهنا نؤكد السؤال مرة أخرى عن التاريخ والحياة. هل الحياة التي عيشت هي نفسها التي سُطرت في كتب التاريخ؟ الجواب سيأتي حتماً من الحفر في
الذاكرة.
وهذا ما تقوله الرواية، إذ نجد أنفسنا أمام حكاية من كلاسيكيات الريف السوري الجنوبي، إن لم تكن اختصاراً يمثل كل تاريخ الإقطاعية في هذه البلاد، وما يليها ونبدو وكأننا لم نمر في الزمن أو أن الزمن ذاته بقي هناك، هنا، ثابتاً في تل الرماد، في الخضرا، في ذات المطخ، وكأننا ما زلنا ذات الشراغيف التي تزحف باتجاه طين متشقق على جلد أرض عطشى لكل شيء، للماء الذي يعني الكرامة، للهواء الذي يعني الحرية.
فمن منع في الأمس، هو من يمنع الآن. كل ما في الأمر إنه بدل ثيابه فقط.
وكأننا لم نتقدم وما زلنا علامات تعجب واقفين على وجه الصفحة.
(الباشا، الرفيق) ثنائية الظلم. ( الماء، الهواء) ثنائية العدالة والحرية.
"المطخ" رواية الأيام الأولى والأخيرة، رواية حقيقية، حقيقة روائية، واقع لا يمكن تخيله إلا معاشاً.
من هو الباشا؟ من هم أزلامه وأحفاده؟ من هم سائسو خيله، وقّافوه، وكلاؤه وكلابه؟
من هو الفلاح؟ من هم أبناؤه؟ أين أصواتهم، همومهم، عذاباتهم؟ أين هي أغاني فرحهم وحزنهم؟ هذا التاريخ، الحاضر، الفجيعة لا يعيد نفسه
أبداً.
إنه مستمر والأدوار نفسها، الأبطال انفسهم وكذلك الضحايا.
هذه الرواية تفتح النار على التاريخ وشرعيته، على المجد وزيفه وعلى النياشين ولمعانها المزوَّر. وتعيد البريق للدموع والألم إلى منابعه الفياضة.
"يحيى" "نارا" "الثور" "أكرم" "شامخ" "أمير".. أسماء بصيغة النحنُ، صراخ في صيغة ريح.
***