عذابات الأمكنة وسرد عين الكاميرا

ثقافة 2019/03/24
...

عقيل هاشم الزبيدي
 
“ها نحن الآن أمام اللوحة (لماذا تكرهين ريمارك؟) ذلك الاسم المستفهم الذي تشكّل في الايام الاولى لتواصلنا معا في المرسم حينما حدثتني يوما عن (ريمارك) بكراهية تتساقط ككرات من ضوء حولها، وهي تواصل حديثها عن كراهيتها للحرب ـ فانبثق اسم اللوحة التي تُحيلني الى صور وكوابيس الايام التي كنت محاصرا بها ...الخ”
كمن يزيح التراب عن تفاصيل لوحة ثمينة بحثا عن المهمل من جمالياتها وأملا في العثور على ملامح عوالم غاربة يجمع الروائي محمد علوان في روايته “لماذا تكرهين ريمارك” نتفا من الوجع الإنساني لتضفي قدرا من الحساسية على خزين عذابات الامكنة. 
 
للحب وقت وللموت وقت
“لماذا تكرهين ريمارك؟” هذا العنوان هو جزء من اشتغالات الكاتب في احداث- تناص مع رواية الألماني إريك ريمارك “للحب وقت وللموت وقت”، أما من أرشده للعنوان فهو (برهان) حين قال له: إنه عنوان مناسب. إن أول ما يستوقفك، وأنت تقرأ هذه الرواية، عنوانها المثير للجدل، وسنفهم فيما بعد أنّه عنوان يستحق هذه الرواية (رواية الحب والحرب)، ولأنه يربط جميع الأحداث التي شكلت بنية السرد. 
الرواية عبارة عن قراءة في شهادة (برهان) الذي هرب من وطنه العراق الى بيروت لأنّه مطلوب للسلطة، ويصل بيروت مكاناً للإقامة فيها، وعمل مصمماً في جريدة، يبدأ برهان حكايته مثقلاً بذاكرة مدينته (مدينة الثورة) اسما ومسمّى ماقبل 2003 وعلاقته بأخته «ثريا» وأكرم وذكريات الطفولة، ومن خلال سرد مكثف ومتداخل الاصوات نطلع على عالم واسع من الهموم والأحلام والخبرات الذاتية، مشغولة بالتماس مع تجربة إنسانية، ثرية بطبيعتها، لكنها لا تأخذ حيز التسجيل المحض، بل يتجادل فيها الفني مع الوقائعي في بنية متجانسة تقنياً ودلاليا. ًقائمة على جدل الحكايات الفرعية المتشظية والحكاية الأم، فثمة خط رئيس للسرد يبدأ من الراوي- البطلة (باجي ثريا) اللقب المحبب البغدادي وفي لحظة فارقة من حياتها، تتبدد فيها الأشياء، ضمن حركية (الفقدان) - الموت والحياة/الحب الحرب - ،هذا السرد الذي اسهم في ما يسهم  مزيدا من الإيهام بواقعية الحدث الروائي، في عمل يجدل بين التخييل والسيرة الذاتية، بحيويةِ كاتبٍ ينظر إلى العالم بتأمل، معتمداً على جماليات الصدق الفني. هنا نجد ثمة إشارات سياسية متناثرة يُسائل فيها الراوي القارئ عبر المواقف السردية وليس عبر الصخب الأيديولوجي تصوراته الفنية في السرد.
 تدور أحداث هذه الرواية في مدينة (الثورة) وكما أرادها كاتبها، وتقوم كلّها على حوارات متعددة ومتداخلة، هناك دائماً نص أو نصوص مرئية وأخرى مضمرة، بطلها الوحيد هو المكان والذي يلقي بظلاله على الشخصيات المختلفة، ويعبر عن نفسه في لغة صحفية موحية وجذابة. الرواية مقسّمة إلى 18 قسماً، والسرد عبارة عن استرجاعات للماضي اعتمادا على ذاكرة الشخصيات، تتداخل الرواية مع مايسمّى رواية داخل الرواية الأم  “أكرم” كتب سيناريو بعنوان -القطاف المر- اذن هناك عالمان من (الحب والحرب) يبتعدان ويقتربان كلما تقدم بنا السرد، هذا الكشف والرصد يعلن عن التحول وماحدث مابعد 2003 بعد دخول المحتل الاميركي المتوحّش وفعل القسوة مع شعب العراق، حتى أن (برهان) حين عاد إلى بغداد لم يجدها كما غادرها، وما وجده من مايسمّى بالمليشيات المسلحة والقتل المجاني والعنف 
غير المبرر.
الرواية تحوي الحكاية الرئيسية، التي تبدأ من مايسمّى سرد عين الكاميرا – مدينة الثورة وصولا الى بيروت.. سرد دقائق اشياء تلك الشخصية المراة –باجي ثريا/بغداد - ، وصولاً إلى  مجموعة من الحكايات الفرعية التي تتصل بها وتنفصل عنها في آن. ويتمثل الرابط الرئيس هنا في ذلك السارد الذي يقدم هذا المقطع الطولي لتك العوالم من منظور عين الكاميرا التي تنقل ما يدور من وجهة نظر صاحبها. السارد هنا مارس لعباً تقنياً ودلالياً، فتتعدد الطاقة الإيحائية للروايتين، وظل يسهم حضور الثنائية بخاصة في تنمية المتخيّل (السيناريو). 
الكاتب هنا يؤثث عالمه الروائي بدقة من جماليات التهكم، فثمة عالم مدهش في تدوينه وكشف تفاصيله للحوادث، يقدمه الينا بشهية. إذن هي رواية:
حاول  الكاتب أن يترك لنا من خلالها رسالة مفادها: أن الآخرين هم الجحيم. بينما استطاع هو فعلا أن يحول رداءة الواقع المعيش، في عمله الإبداعي الأدبي، إلى جمال، كما يفعل الفنان التشكيلي عندما يحول منظرا قبيحا في الواقع إلى جميل في العمل الفني، أو كما يفعل السينمائي الذي يجعل من الحرب التي ترمز في الواقع إلى العنف والدمار، موضوعا للفرجة والتشويق بقوة ملكته الإبداعية أن يفعل الشيء نفسه.