علي المرهج
كان علماء الكلام محمومين بالدفاع عن العقيدة والتراث عندهم هو الأصل، الذي بُنيت عليه معارفهم والكشف عن نزعة عقلية تتحملها النصوص المقدسة، التي تجمع بين (العقل والنقل)، لذلك كان التجديد عنهم في توظيفهم الجديد لتأويل النص بما يجعله نصًا فاعلًا في الحياة الاجتماعية للمسلمين.
كان (الآخر) المختلف عندهم يستفز العقل، فنجدهم، أي علماء الكلام، يُنتجون معارفهم المستنبطة من القرآن الحكيم والسيرة النبوية، فكان الجدل هاجسهم لغلبة الخصوم لغاية عندهم أسمى، ألا وهي الدفاع عن (بيضة الإسلام)
كان التجديد الأهم ـ من وجهة نظري ـ مرتبطاً بالغزالي، الذي تمكن برؤية نقدية من قراءة الفلسفة الإسلامية، لا سيما الفارابي وابن سينا، قراءة نافذة، ليكتب أهم كتابين في الفلسفة هما: (مقاصد الفلاسفة) يشرح فيه رؤى الفلاسفة الأرسطيين، و(تهافت الفلاسفة)، الذي كفّر فيه الفلاسفة في قضايا ثلاث هي:
قدم العالم، وعلم الله، والمعاد. ولا أخوض في تفسيرات هذه القضايا، لأن من عرف دروب الفلسفة فقد أدركها، ولكن الأهم عندي هو رد ابن رشد عليه، ليكون التجديد مرابط النزعة العقلانية، التي تمثلت بفلسفة ابن رشد ورده لا على الغزالي فقط، حينما ألف كتاب (تهافت التهافت) للرد على كتاب الغزالي (تهافت الفلاسفة)، ولكن لأنه تمكن من (تنقية أرسطو من شوائب الشراح) بتعبيره، ويقصد بهم الفارابي وابن سينا اللذين لم يفهما فلسفة أرسطو ـ بحسب ما يراه ـ حق فهمها، فخلطا بينها وبين فلسفة (إفلوطين).
لم تكن لفلسفة أرسطو علاقة بالدمج أو التوفيق بين الفلسفة والشريعة، كما فهم الفارابي وابن سينا بحسب فهم ابن رشد، لأنها فلسفة ليست (إشراقية) والعقل فيها عقل (سببي) ينتقل من المقدمات إلى النتائج، بمعنى أنه عقل طبيعي يتدرج في المعرفة من البسيط إلى المركب وإلى المُعقد، ولا يتصل العقل المستفاد ليكون عقلاً فعالاً بـ (الإشراق) كما هو الحال عند الفاربي وابن سينا.
لم يكن ابن رشد يجمع بين رأيي الحكيمين (إفلاطون وأرسطو) كما فعل الفارابي، إنما كان يعمل على فهم العلاقة بين (الحكمة والشريعة)، على أنهما مكملان لبعضهما، وفق قاعدة ابن رشد (الحق لا يُضاد الحق، إنما يُوافقه ويشهد له) والحكمة حق والشريعة حق، وهما بتعبيره: (أن الحكمة صاحبة الشريعة، بل أختها الرضيعة).
كان ابن رشد فيلسوفًا براجماتيًا قبل أن تظهر الفلسفة البراجماتية للنور، فهو أجاد الدفاع عن الشريعة وقيمتها الرفيعة في نقده للغزالي، بل وأجاد استحضار الفلسفة وقيمتها العقلانية في الشرق، وانتقالها للغرب الذي تأثر فلاسفته ومفكروه برؤاه.
سبق الكندي ابن رشد في الدفاع عن العلم والفلسفة والمنطق، والنهل منه ولو جاء من أمم مُخالفة لنا في الملّة، ولكن ابن رشد أجاد طرح (الإشكالية) ليواشج بين ضعف التبني لفكر مغاير لنا عقائديًا وفكرنا الإسلامي الذي من وجهة نظر ابن رشد تأسس على قاعدة (واعتبروا يا أولي الألباب)، والاعتبار يعني التدبر والحكمة.
كثير من المفكرين عندنا في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، يُقال عنهم إنهم مجددون لأسباب أهمها:
القسم الأول: أعجب ببعض المفكرين العرب بالفكر الغربي، وقرأ الفكر اليساري، أوالليبرالي، وأجاد في اقتناص نصوص من القرآن الكريم ونصوص التراث التنويرية عمومًا، تؤكد قبول الآخر (المختلف)، ليبحث في هذه النصوص عن نزعة “وسطية” تجمع بين نزعة الجماعية في الفكر اليساري والفكر الإسلامي، أو بين النزعة الفردية في الفكر الليبرالي والفكر الإسلامي، على قاعدة (وجعلناكم أمة وسطًا).
القسم الثاني اختار التجديد برفض فكر الآخر المختلف، وعدَّ كل فكر يتعارض مع ثوابت الإسلام إنما هو فكر يعيش أصحابه في زمن الجاهلية، ولا عذر بعد انتشار الرسالة الإسلامية لمن لم يؤمن بها، وحاله كحال المشركين الذين تحدوا رسول الله (ص) ولم يؤمنوا برسالته، فكانوا من الجاهلين!. لذا يكون التجديد في استلهام سيرة وحياة وفكر الجيل الألو من المسلمين وزمن الرسالة الإسلامية، لأنه هو الأنموذج الأمثل للنهضتنا العربية والإسلامية الأولى.
القسم الثالث: احتمى بالفكر الصوفي وبنزعته الإنسانية في قبول الآخر، فترك مقولات الفقهاء وتمسك بمقولات العارفين، وصار الكثير منهم يُنشد قول ابن عربي:
صار قلبي قابلًا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت أوثان وكعبة طائف
أدين بدين الحب
أنى توجهت ركائبه
فالحب ديني وإيماني
وآخرون منهم أعادوا استحضار تجليات (جلال الدين الرومي) عن الحب بقوله (لقد فتحت باب قلبي وملأته بألم الحب) أو قوله (دين الحب مُنفصل عن كل الديانات)، وهو قول لا يختلف في معناه عن مقاصد ابن عربي في قوله السابق.
تبقى جدلية التراث والتجديد جدلية قائمة، طالما كانت الاتجاهات المتصارعة في الانتماء الأيديولوجي للتراث موجود، تُقابلها اتجاهات منتمية أيديولوجيًا للحداثة وما بعدها، والتجديد قد يكون حاضًرا بشكلٍ أو آخر في أغلب هذه الاتجاهات
المتصارعة.