الأمراض النفسيَّة في الدراما والسينما

منصة 2022/06/08
...

  عفاف مطر 
ترى هل كانت الدراما السينمائيَّة واقعيَّة ودقيقة في تصويرها للأمراض النفسية والعقليَّة؟ والى أي مدى غيَّرت تفاصيل هذه الحالات فكرتنا عنها لتجعل تصورنا عنها أسوأ؟ منذ بدايات السينما قدمت صورة نمطيَّة عن المرضى النفسيين عبر مشاهد لعنابر لمستشفى الأمراض النفسيَّة المليئة بالحالات المضطربة التي قد تنفجر في أي لحظة.
 
في العام 1906 قدمت السينما فيلم دكتور (Dippy s Sanitarium) في عشرين دقيقة، وهو عن حالة من الفوضى تسود مصحة نفسيَّة بعد سيطرة المرضى عليها، وتنتهي الفوضى حين يقدم المدير فطيرة لكل مريض! تأثير العشرين دقيقة هاته استمر في السينما مدة طويلة، التي قدمت المريض كشخصٍ سادي ردات فعله غير متوقعة فقد يقتل أو يحرق أو يقوم بأي عمل مؤذٍ لأي شخصٍ في أي وقتٍ وفي أي مكان؛ كما تم التركيز على أنَّ الشخص الذي يبدو هادئاً ومتزناً في المصحة هو الشخص الأكثر جنوناً.
في العام 1931 في فيلم (M) قدم المخرج الألماني Frizt، صورة استثنائيَّة للمريض النفسي ومغايرة لكل ما كان سائداً في تلك الفترة، إذ جعله أقرب الى 
الحقيقة. 
تغير الأمر في العام 1957 بعد القبض على القاتل المتسلسل (Ed Gein) واهتمت وسائل الإعلام بماضيه المؤلم وطفولته المضطربة، الأمر الذي لفت انتباه المخرج العظيم Hitchcock، إذ قدم بعدها بثلاثة أعوام فيلم (Psycho) المقتبس من قصة حياة (Ed Gein) الحقيقيَّة وركز فيها على علاقته بوالدته ومنزله الشهير، ليشكل هذا الفيلم نقطة تحول في تعامل السينما مع المرض النفسي.
ظلت السينما تربط بين المرض النفسي والشخصيات الشريرة، وهذا بالطبع غير واقعي وهو ما انتبهت إليه السينما، فتعاطت مع المرض النفسي بشكلٍ أذكى وأكثر براعة حتى وصلنا الى نموذج (Hannibal Lecter) في فيلم "صمت الحملان" الذي أدى بطولته انطوني هوبكنز، في هذا الفيلم لم يبق البطل النفسي محصوراً في خانة القتلة المتسلسلين، بل أصبح أنموذجاً درامياً وواقعيا.
ومنها انطلقت الأفلام لتناول موضوعات نفسيَّة حقيقيَّة أخرى كالاكتئاب والهوس والقلق وأعراض ما بعد الصدمة والهلاوس... الخ، وتقديمها بشكلٍ حقيقيٍ أكبر بعيداً عن المبالغة والسخريَّة من المريض النفسي.
الممثل Laurence Olivier كان أول ممثلٍ في تاريخ هوليوود يتسلم جائزة الأوسكار عن أدائه دور مريض نفسي في فيلم (Harvey) الذي أنتج في العام 1950، في هذا الفيلم تم تقديم المريض النفسي بصورة إنسانيَّة بعيداً عن فكرة أنَّ المريض النفسي قبيحٌ أو مخيفٌ، بل على العكس كان Elwood وسيماً ولطيفاً وثرياً، تتلخص حالته بأنَّه يأكل ويضحك ويمشي في الشوارع مع أرنبٍ خفي يناديه هارفي، وأجمل ما في هذا الفيلم تعاطفنا مع فكرة المؤلف، الذي كان يودُّ إيصال رسالة مهمَّة للغاية، وهي أنَّ علاج Elwood الذي كانت تصرُّ عليه أخته وابنتها قد يحوله من شخصٍ ظريفٍ ومسالمٍ لشخصٍ قاسٍ.
في فيلم (Gun Girl) حققت كاتبة الرواية Gillian Flynn رغبتها في دحض مقولة أنَّ "النساء طيبات بالمطلق" وأنَّ النساء قد يكنَّ عنيفات كالرجال عبر شخصية Amy المضطربة والباحثة عن الاهتمام حتى لو كان الثمن جريمة قتل وتوريط زوجها بها وهو لم يرتكبها، ومع ذلك تلقت الشخصيَّة تعاطفاً كبيراً من النساء حول العالم.
السينما العربية كان لها موقفٌ آخر وقدمت في أفلامها التي تتناول العصفوريَّة أو السرايا الصفرا أغاني مبهجة مثل الاستعراض الشهير للفنان الراحل اسماعيل ياسين في فيلم "المليونير" في العام 1950، أو أغنية "سلملنا على التروماي" في فيلم "أيام الغضب" بطولة نور الشريف، وطرحت السينما العربيَّة موضوع استعمال المصحة النفسيَّة كبديلٍ للسجن من قبل السلطات للتعبير عن الفساد الأمني والسياسي في دولنا.
فيلم "بئر الحرمان" للراحلة سعاد حسني كان موفقاً في تصوير حالة مريضة تعاني من الحرمان وعدم الاهتمام، وفيلم "آسف ع الإزعاج" لأحمد حلمي قدم فيه حلمي نموذج مريض يعاني من حالة الفصام ويشعر بأنه مضطهد وأنَّ هناك من يتعقبه، وقد تعاطف الجميع مع هذين الفيلمين وغيرهما ثم جاء فيلم "الفيل الأزرق" وقدم المرض النفسي كمصدرٍ للرعب وصارتْ المصحة النفسيَّة مكاناً للأعمال الخارقة للطبيعة 
والمرعبة.
فيلم (The Power of the Dog) الذي ترشح كأفضل فيلمٍ في حفل الأوسكار 2022 كما ترشح بطله Benedict Cumberbatch كأفضل ممثل يعدُّ من أجمل الأفلام التي تناولت المرض النفسي مؤخراً بواقعيَّة وصدق حقيقيين.