في ذكرى وفاة الحافظ خليل إسماعيل.. الحنجرة التي صقلها كلام الله

منصة 2022/06/13
...

  لؤي الشقاقي
ولد خليل إسماعيل العمر في العام 1920 في بغداد، المدينة التي أحبها وأحبته وترعرع فيها وتشرب روحها ووهبها صوته وروحه فصار من يسمعه وهو يتلو كلام الله يراها ويتخيلها، كرمها ورفع اسمها فكرمته ومنحته رتبة لا يرقى إليها إلا المصطفون ووضعته في صف الخالدين.
 
درس وتتلمذ على يد كبار القراء والعلماء وأخذ منهم الكثير وكانت قراءته تصويريَّة لمعاني الآيات تؤثر في السامعين واضعاً أمامه قول النبي "ص" "زينو القرآن بأصواتكم فإنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً" وقوله "من لم يتغن بالقرآن فليس منا" وقوله "ما اذن الله لشيء ما اذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن الكريم يجهر به" وكان هذا من الأسباب التي شجعته على القراءة وفق الأنغام المقاميَّة البغداديَّة الأصيلة, كانت قراءته حسبة لله بنيَّة صادقة لوجهه لم يبغ شهرة أو مكانة أو نفعاً مادياً.
في العام 1942 أخضع جميع القراء لاختبارٍ عسيرٍ لبيان مدى حفظهم لكتاب الله لم يوفق فيه غيره وحيدر الجوادي من الموصل.
تنقل الحافظ بين الكثير من جوامع بغداد مبتدئاً بجامع السراي حتى استقرَّ به المقام في جامع بنيَّة وخلالها أصبح شيخ محفل القراء في جامع الإمام الأعظم. دخل الإذاعة عام 1941 ولما عُرف وذاع صيته في الأمصار دعي الى كثيرٍ من الدول وقرأ في مساجد أبرزها المسجد النبوي والمسجد الأقصى ومرقد السيدة زينب في الشام والكويت وقد سجلت له هناك تلاوات نادرة محفوظة لليوم.
عاصر أغلبَ القراء البغداديين, أما قراءاته مع العرب فهي كثيرة فقرأ مع الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي في وفاة الملكة عالية عام 1950، حيث بدأ عبد الفتاح وبعده قرأ خليل فقال الشعشاعي بحقه "والله كويس خالص" وكررها وأردف "هكذا يقرأ القرآن لقد اعتديتم علينا عندما اتصلتم بنا في مصر وعندكم هذا الخليل"، وعند انتهاء التلاوة باشروا بالختمة وكان الدعاء للحافظ خليل "اللهم اجعل أشرف صلواتك دائماً أبداً بعدد أنفاس الخلائق فرداً فرداً" الى آخر الدعاء وعند انتهائه توجه نحوه الشعشاعي قائلاً: يحفظك الله أكرمك الله ما هذا الدعاء البركة وما فعلت بنا يا شيخ أريد منك أنْ تسجله لي وأردف "إني لم أطرب ولم أكن أسمع مثل الحافظ خليل أنه وتر الكمان".
كذلك التقى مع أبو العينين شعيشع في بغداد وقرأ معه والتقى مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي في الستينيات وأيضاً مع الشيخ محمود خليل الحصري وقرأ معه في القصر الجمهوري عام 1964 في شهر رمضان بحضور الرئيس عبدالسلام عارف.
في العام 1970 حضرت الى العراق لجنة أزهريَّة لتعليم القراء ضبط أحكام وقواعد التلاوه القرآنية مؤلفة من شيخين أزهريين هما الشيخ رافع والشيخ محمود سيبويه وفتحوا دورة في جامع الحيدرخانه، ويروي الحاج محمد الخشالي صاحب قهوة الشابندر القصة قائلاً: "كنت أرافق الحافظ خليل وقد دخل على هذين الشيخين في جامع الحيدرخانه وكانا لا يعرفان الحافظ خليل سابقاً وبعد السلام عليهما طلب منهما التسجيل في الدورة التي يفتحانها وأرادا سماع قراءته قبل درج اسمه لمعرفة قابليته القرائيَّة وما أنْ بدأ الحافظ خليل بالقراءة أمامهما حتى قفزا من مكانهما إعجاباً به واندهاشاً لما سمعوا وقالا له توقف يرحمك الله ياشيخ، نرجو منك أنْ تفتح أنت لنا دورة لتعليمنا مثل قراءتك وانقلب المجلس الى حفاوة بالحافظ خليل وخاصة بعدما عرفوا بمكانته بين القراء العراقيين واعتذروا منه اعتذاراً شديداً".
أجاد المقام وفنونه ووظفه لخدمة القرآن، فتراه يقرأ آيات العذاب والنار بأنغام الصبا والسيكاه الحزينة ويقرأ آيات الجنة بأنغام الحجاز والخلوتي المفرحة، يدلف الى الرست فيرتقي مياناته "اي صيحاته" الواحدة تلو الأخرى بسهولة ويسر ويخرج منه الى المنصوري فيتناول السيكاه كمن يشرب فنجان القهوة ويعود الى البيات الذي ابتدأ القراءة فيه، ويمرُّ على الخنبات والحكيمي ويتفنن بهما ويمرُّ على الزنجران الذي عجز عن قراءته كل قراء القرآن كما فعل خليل، يمرُّ بالمدمي والإبراهيمي فيعذب بهما الروح والفؤاد، وقرأ أيضاً بالانغام المصريَّة والتركيَّة وأجادها أيما إجادة من دون خروجٍ عن أحكام التلاوة أو أحكام الأنغام فكان قارئاً مكتملا, إلا أنَّه قطع على نفسه وعداً لشيوخه بعدم قراءة المواليد والمدائح والمناقب أو المقام.
قال عنه الموسيقار محمد القبانجي "إنّ في صوته سحراً عجيباً وهو مقرئ العراق الأول من دون منازع، نحن جميعاً بيد المقام العراقي، ولكنَّ المقام بيد الحافظ خليل" وقال فيه الناقد الموسيقي عادل الهاشمي: "هو القارئ المتميز في العراق وهو أعظم حنجرة جودت ورتلت القرآن الكريم في وقته وزمانه وقد تدرج بذكائه إلى نهج طريقة خاصة به في بناء قاموسه النغمي تدريجياً بما استفاده من الإصغاء الى جمهرة قراء عصره، فضلاً عن  امتيازه بالأداء الجيد من الأصول والفروع فهو يبشر وينذر في تلاواته فضلاً عن تنقلاته النغميَّة المتماسكة في أسلوب التلاوة والمساحة الواسعة في صوته من قراره الى جوابه إلى جواب الجواب، قرأ الحافظ المقامات الرئيسيَّة والفرعيَّة كلها.
أصاب الحافظ مرضٌ عضالٌ لم يمهله طويلاً فتوفي يوم الأربعاء الخامس من تموز عام 2000 فكان ذاك اليوم حزيناً على محبي وعاشقي هذا الصرح الكبير، حزنت يومها كل مساجد ومنابر ومآذن العراق فقد ذهب الصوت الذي كان يجلجل فيها ويصدح بحنجرته الذهبيَّة في رحابها، شيعت بغداد في اليوم التالي قارئها الأول من جامع المعز تشييعاً مهيباً إلى مثواه الأخير في مقبرة الكرخ.