مدينة من رماد لـ {فاضل العزاوي}.. مرويَّةُ استعاداتٍ لم تغادر أبداً

منصة 2022/06/15
...

  معاذ اللحام
في بغداد {المدينة التي لا تشبه المدن} يمكنك أن تسير تاركاً ظلكَ يتشمس على ضفة دجلة، على طول {أبو نواس}، عابراً الحانات الصيفية، شارع السعدون، شارع الرشيد والدروب المضمخة برائحة القداح، صاعداً جسر الجمهورية مطلا على الرصافة والكرخ معاً، يمكنك أن تضيع بين ألوف البشر الخارجين من جحيم بيوتهم إلى فضاء أعذب وتكتشف {أن البسمات مبذولة سوى أنها مغلفة بالحنظل}، يمكنك أن تترك الناس وتميل إلى الضفة، وتجد جلاداً يرتاح في ظل شجرة.
 
في بغداد، المدينة التي تشبه غيرها من المدن، يمكنكَ أن تعبر ذات الشوارع وذات الحانات، وتصعد ذات الجسور، وتترك ظلَك مرتعشاً في الشمس، وتضيع بين ألوف البشر، لتكتشف كم الأنهر التي تخترق المدن متشابهة، وتجد ذات المقاهي وذات الحانات وذات السجون، وتميل إلى ذات الضفة لتجد جلاداً يرتاح في ظل شجرة.
 
 الحكاية
إنها بغداد الستينات، الجو السياسي هو ذاته في كل العواصم، مدبرو عمليات تخريب، شعارات معادية للدولة مخطوطة على الجدران، حزبيون يمينيون يناهضون اليسار الحاكم، يساريون مشكوك بيساريتهم، خونة، مجانين يخطبون في الساحات، مروجو شتائم سياسية، أعداء، أوكار الرجعيين، صحفيون مشبوهون، جلادون وضحايا خونة. تلك هي المفردات التي درجت في الأدبيات السياسية والأمنية في فترة الستينات.
إنها سيرة الجلاد الذي يبحث عن سلامه الداخلي وبراءته الذاتية بموضوعية قذرة، إنها سيرة الطاغية الصغير مغلَفاً نفسه بصك الغفران. الجلاد الذي يحلم بالهدوء الصامت للشعب، بالنظام الموزون على مقام مارش عسكري للشارع، وكل حركة حتى لو كانت لعصفور، يعتبرها خطراً على بقائه. إنها سيرة الجلاد الصغيرالذي بعد أن ينتهي دوره يصبح ضحية لجلاد أكبر.
تروي القصة، التي تجري أحداثها خلال شهر حزيران من عام 1967 قبل الحرب وبعدها، تروي يوميات جلاد. فالمعاون في مديرية الأمن العام في بغداد، قاسم حسين، يجد نفسه وقد أصبح جلاداً محققاً بعد أن كان حلمه أن يدخل كلية الحقوق ليصبح محامياً، إلا أن أحد أصدقاء والده في مديرية أمن كركوك نصحه بأن يدخل كلية الشرطة. في البدء، وكغيره من الجلادين الصغار ارتبك أمام الحرج الإنساني: كيف تعذَب إنساناً آخر!. إلا أنه كغيره من الجلادين سيجد التبرير لنفسه بالحفاظ على النظام وأن الضحايا هم مخربون فعلاً حتى لو كانوا أناساً طيبين. ومع سقوط الحاجز الأخلاقي الذي ترافق بسقوط أول صفعة على وجه أول معتقل، ستصبح الأمور أقل تبكيتاً للضمير الذي سيموت لاحقاً وبسرعة. وتبقى رائحة الدم على الأصابع عالقة إلى الأبد.
إن ما أوقع المعاون قاسم حسين في الضيق، إذ غالباً ما نجده يهيم في شوارع العاصمة أو في حاناتها ومقاهيها وبيوت دعارتها، هو أن يجد نفسه أمام ضحية جديدة لها خصوصيتها بالنسبة له شخصياً. فالمعتقل هو جليل محمود صديق صباه والشخص الذي أمضى معه فترة الثانوية وأتيا سوية من كركوك. فينفتح الماضي القريب بكل حنينه "بضوئه المعتم". إلا أنه مثل كل الجلادين سيضع اللوم على الضحية، على صديقه الذي وضع نفسه في هذا الموقف وباع نفسه للخونة. الصحفي اليساري الذي رغم عدم اعترافه تحت التعذيب بقي مصراً على الصمت وهذا ما عمق الضيق الخاص لقاسم ودفعه للعنف أكثر وهدم آخر جدار بينه وبين انسانيته الميتة وضرب صديقه المعتقل. 
عندها تأكد موته الخاص وبات أكثر ضيقاً وأكثر ألقاءً للوم على صديقه محاولاً تخفيف الضغط النفسي. إلا أنه يذهب باتجاه أبعد فيقيم علاقة مع زوجة جليل التي كانت جاهزة للخيانة، ويتم تحويلها هي الأخرى إلى عميلة أمنية. ونراه يسأل نفسه: " لقد تعودت يا قاسم أن تنظر في عيون الرجال المرتجفين أمامك وتضحك، تعودت الدم الذي يلطخ يديك، تعودت رائحة سردابك المعتم. 
ولكن أتراك تستطيع هذه المرة أن تحدق في عيني صديقك دون أن تشعر بالفزع من نفسك؟" 
هذا الوضع جعل من قاسم أقل تركيزاً وليس أقل عنفاً فهو يعتبر نفسه المحافظ على النظام المخلص لعمله الذي أوكل إليه، إلا أنه يفشل من وجهة نظر الجهاز الذي كان يراقبه. وتأتي حرب حزيران لتجعل الشارع ينتفض في البلدان العربية وتخربط جميع الأوراق الأمنية، ويتم تحميل الفشل للجلادين الصغار، أما الكبار فيعتبرون أنفسهم منتصرين لأنهم لم يسقطوا. ويتم التخلص من قاسم بتصفيته.
تلك هي الحكاية مبسطة بإيجاز
البعد الآخر للحكاية
تندرج هذه الرواية، التي نشرت لأول مرة في عام 1989 وصدرت عن دار بابل، ضمن أدبيات العنف السياسي الذي بدء مع حصول الدول العربية على استقلالها، وتعمق أكثر بعد سيطرة الأنظمة القومية اليسارية شكلاً، وتسلطها على مفاصل الدولة. تتمتع الرواية براهنية حاضرة، فالعنف ما زال هو العنف والتسلط ما زال هو التسلط. استعادت منشورات الجمل مؤخراً الرواية ونشرتها كاستعادة لفاضل العزاوي ومنجزه الأدبي. 
إذن، قام العزاوي في البدء باستعادة فترة الستينات، وتأتي هذه القراءة كاستعادة أخرى للرواية والزمن.
إن العنف السياسي، وهو محور هذا النوع من الكتابة الأدبية، ينتج عند تبني السلطة له كسياسة خفاء، كسلوك مسموح به لانتزاع الاعتراف من المعتَقل. وبالتالي يصبح هذا العنف، من وجهة نظر السلطة، عنفاً شرعياً. لتبرير السيطرة، لتعميم الخوف وبالتالي سهولة الإخضاع ولجم الشارع.
إن قيمة أي عمل أدبي لا تتعلق بما يقترحه من حلول للقضايا التي يتناولها، أو بما يجيب عنه أو بما يرغب الجمهور أن يقرأه، لا. قيمته تنتج عما يثيره من الأسئلة وهذا بالضبط ما يجعل من أي عمل أدبي عملاً أدبياً معاصراً.
فالمعاصرة تعني أن تبقى تلك الأجراس اللامرئية ترن في شوارع الحكاية سواء كانت رواية أو قصة قصيرة أو أي عمل فني آخر. ترن معلنة بأن ثمة أسئلة عالقة على لسان الحكاية يجب أن تُطرح، وثمة مصائر وعلائق يجب أن تُعرف.
إن ما يجعل من "مدينة من رماد" رواية معاصرة هو أسئلة الحب الصداقة الخيانة والعنف، فبغداد ليست وحدها معفرة بالرماد. إنها سيرة المدن – المعتقلات، المدن المسورة بالخوف. وإن كان الأدب قد تحدث عن مدن من ملح وأخرى من رماد، فإننا ولا شك سوف نطالع أدباً يتحدث عن مدن من غبار ونفايات ودم وبراز، مما يجعل من الأدب وكأنه كاشف للمادة الأساسية التي تُصاغ منها المدن والحيوات.