مدنٌ تستثمر في تحسين الكوكب

بانوراما 2022/06/15
...

 ستيوارت برون 
 ترجمة: مي اسماعيل
في ظل تباطؤ اجراءات الحكومات المركزية، تميزت عدد من مدن العالم بدفع وتيرة تقليل انبعاثات الكربون بجرأة؛. ورغم أن تلك الحكومات تمتلك مفاتيح التحول وبناء الاقتصاد الأخضر؛ ووقعت على اتفاقية باريس للمناخ، لكنها بطيئة في تفعيل اقتصادات الكربون المنخفض. 
 
تهدف الالتزامات الحالية لتقليل الانبعاثات لمواجهة ارتفاع قدره نحو ثلاث درجات حرارة مئوية من الاحترار العالمي؛ أي- ضعف عتبة الدرجة ونصف الدرجة المقبولة. ويتواصل دعم صناعة الوقود الأحفوري بمعدل ثلاثة أضعاف الطاقة النظيفة لترفع التأثير طويل الأمد للوقود الأحفوري مع أزمة الوقود التي غذتها حرب أوكرانيا؛ والتي جعلت بعض الدول تتطلع إلى تنشيط تجهيز الغاز والنفط غير الروسي. يقول عمدة لندن "صدّيق خان" عن الالتزام بالتحرك لمواجهة التغير المناخي: "الفرق بين المدن والحكومات الوطنية كالفرق بين الليل والنهار؛ وبين المتأخرين والمنفذين". في مدينة كوبنهاغن، التي وعدت بالحياد المناخي سنة 2025؛ والتحول الى مناطق مختزلة خالية من السيارات والكربون؛ هناك طرق تستثمرها لهذا الحل فهي تعد أول مدن الأرض المحايدة مناخيا. وكشفت حكومة كوبنهاغن المحلية عام 2012 عن خطة مناخية حتى عام 2025؛ هدفها الطموح اقامة اول مدينة محايدة كربونيا في العالم. وما زالت العاصمة الدنماركية على المسار لتصل الى صفر- انبعاث سنة 2025؛ أي قبل ربع قرن من هدف الحكومة المركزية لتصفير الانبعاثات سنة 2050. تُعزى 66 بالمئة من انبعاثات كوبنهاغن الى ((انتاج)) الطاقة، و34 بالمئة الى المواصلات. وتنوي المدينة التقليل بمواجهة استهلاك وانتاج الطاقة، واعتماد التنقل الأخضر، لتقليل الانبعاثات بنسبة مئة بالمئة مقارنة بسنة 2005 وزيادة النمو الاقتصادي بنحو 25 بالمئة لذات الفترة؛ بتعظيم الاستثمارات وخلق فرص العمل. كان امام كوبنهاغن قبل عامين من الآن 20 بالمئة اخرى فقط من التخفيضات وصولا الى الهدف؛ إذ باتت السيارات الخاصة تشكل المصدر الأساس لتلوث الكربون المتبقي في المدينة. ولأن الكهرباء والحرارة تمثلان أكبر مصدر لانبعاث ثاني أوكسيد الكربون؛ تستبدل حكومة كوبنهاغن الفحم والنفط والغاز بالطاقة المتجددة. استوعبت الرياح والطاقة الشمسية والكتلة الحيوية بالفعل الكثير من هذا التغيير؛ لكن خمسين بالمئة من التقليل سيأتي ببساطة من ((تنشيط)) كفاءة الطاقة؛ إذ أقامت المدينة شبكة طاقة ذكية لتقليل الخسائر الكبيرة عبر المنازل والانتاج وقطاع التجزئة. ترغب المدينة بتحويل 75 بالمئة من رحلات التنقل عبر المدينة الى سير على الأقدام، أو بالدراجة الهوائية أو بالمواصلات العامة بحلول سنة 2025. وستُمنع مركبات الاحتراق الداخلي من المدينة سنة 2030.
- مومباي: مدينة رائدة مناخيا في جنوب آسيا- حينما تعهد رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" بالحياد الكربوني بحلول سنة 2070 (في مؤتمر المناخ "COP26")؛ بدت تلك خطوة واعدة من ثالث اكبر مصدر عالمي للانبعاثات. لكن مومباي (أكثر مدن الهند سكانا؛ نحو عشرين مليون نسمة في المنطقة الحضرية) تعمل لتصعيد هذا الطموح؛ واعدة بتحقيق قيمة صفر من الانبعاثات قبل عقدين من الموعد المقرر. جرى الكشف عن خطة العمل المناخية الأولى شهر آذار الماضي بالتعاون مع منظمة أميركية غير ربحية (معهد الموارد العالمية) ومبادرة المناخ الحضري العالمي C40. 
اعترافا بالحاجة للتكيف مع المناخ في مدينة ساحلية ضخمة، معرضة بشدة للإجهاد الحراري والفيضانات؛ تدعو المبادرة ايضا لإنهاء انبعاث الكربون من قطاع الطاقة المسؤول عن 72 بالمئة من انبعاثات المدينة. 
ولأن شبكة توليد الطاقة تعمل بالفحم بالكامل تقريبا؛ ستعمل مومباي على تكثيف استخدام الطاقة الشمسية تحديدا، للوصول إلى هدف الطاقة المتجددة بنسبة خمسين بالمئة سنة 2050. 
كما ستُركز على كفاءة الطاقة في المباني التي تنتج أعلى الانبعاثات. 
المواصلات أيضا كانت نقطة تركيز؛ مع خطط لتحويل شبكة النقل الحضري الواسعة في مومباي الى الكهرباء. وبداية سيجري وضع نحو ألفي حافلة نقل كهربائية على الطرقات بحلول عام 2023. 
كذلك وضعت مومباي خطة إدارة نفايات صفرية وغرس غابات حضرية عبر المدينة؛ لتخفيف نحو عشرة بالمئة من الانبعاثات المنسوبة إلى النفايات؛ خاصة المطامر التي تنفث غاز الميثان. 
 
باريس
تقليل انبعاثات الكربون ممكن أيضا عن طريق تجنب الزحف العمراني عالي الانبعاث وإنشاء مدن أكثر كثافة وأكثر توفيرا لمسارات المشي وركوب الدراجات. هذه الفكرة تتوطن في مبدأ "مدينة الخمس عشر دقيقة" لتقليل زمن التنقل وتمكين الناس من العيش والعمل محليا. 
ومن تلك التجارب: "باريس- 15 دقيقة". وهذه الفكرة كانت المحور المركزي لحملة إعادة إنتخاب عمدة باريس "آن هيدالغو" سنة 2020؛ إذ باتت العاصمة الفرنسية المثقلة بالزخم المروري تضع مسارات للدراجات الهوائية في كل شارع، بهدف استعادة سبعين بالمئة من مواقف السيارات في الشارع.. والغاية هي التخلص من تلوث الهواء والضوضاء والكربون، ليكون جزءاً من موعد سنة 2050 وباريس محايدة تجاه الكربون. 
عن طريق توسيع مواقع العمل المشترك واستخدام المتاجر والملاعب المحلية؛ تسعى المدينة لتفعيل "التقارب المفرط" في قطاعات باريس؛ حيث يمكن للسكان الوصول إلى جميع المنافع خلال 15 دقيقة؛ سيرا على الأقدام بالدراجة من 
المنزل.
سياتل
في سياتل الأميركية تركز المكاتب المعمارية على تصميم مبانٍ حضرية واطئة الاحتياج للطاقة و"مناطق بيئية" خالية من الكربون ومنخفضة الطاقة؛ مستندة الى أساس الفكرة الألمانية "baugruppen" (أو مجموعات البناء)؛ بمعنى تعاونيات الإسكان. 
وهي تعاونيات طورها المواطنون وليس المستثمرين، والفكرة ان تلك المناطق المستدامة ستحقق كفاءة متفوقة للمباني؛ بتوظيف معايير بناء "Passivhaus" الخالية من الطاقة (مبانٍ تغطي احتياجاتها من الطاقة إلى حد كبير بالإشعاع الشمسي والحرارة المنبعثة من المعدات والأشخاص بداخلها. المترجمة)؛ وهي تقنيات عالية الكلفة لكنها ستصبح أكثر معقولية مالية لاحقا. 
هذا الحلم متحقق بالفعل في فوبان "Vauban" بألمانيا؛ وهو حي بيئي نموذجي ضمن مدينة فرايبورغ الخضراء الرائدة. وفي مقدمة الأهداف المناخية الطموحة تخطط فرايبورغ لخفض ستين بالمئة من الانبعاثات بحلول عام 2030. 
بُنيت فوبان أواخر عقد التسعينات على موقع سابق لثكنة عسكرية فرنسية، وفيها يعيش نحو 5600 شخص ضمن شوارع خالية من السيارات صديقة للمشاة والدراجات الهوائية، وفيها مباني "سلبية- Passivhaus" ألوانها زاهية، وعلى سطوحها تراكيب الطاقة الشمسية. 
وهناك محطة لتوليد الطاقة تعمل بالغاز الحيوي يتم تغذيتها بمياه الصرف الصحي المحلية؛ تكمل احتياجات 
الكهرباء. جرى تصميم مدينة الانبعاث الصفري للغازات، المصنفة الأكثر خضرة في أوروبا على يد معماريي "Passivhaus" بمساعدة مجموعة مجتمعية محلية، وبإسناد قوي من حكومة بلدية ملتزمة بالاستثمار. 
 
• موقع  {دويتشي فيللا} الألماني