نيتشه ودريدا والتفكيك

منصة 2022/06/16
...

 كمال عبد الرحمن
يعدُّ الفيلسوف الألماني المعروف فريدرك نيتشه (1844 - 1900) من أهم أساتذة مدرسة «الارتياب» أو «الشك»، وتجاوز نيتشه الشك الديكارتي (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، ليشكك في الوعي ذاته، وقد اقتفى «دريدا» خطوات « نيتشه» في شكه المتواصل في معطيات الفكر الغربي المتمركز حول اللوغوس (كلمة يونانية: تعني الخطاب، المبدأ، العقل، والعلم) وهو معنى ديني أكثر مما هو فلسفي.
 
زحزحة الغيبيات
وقد تأثر التفكيكيون بأفكار نيتشه الفلسفيَّة، لا سيما مقولة (موت الإله) التي تعني «زحزحة الغيبيات والميتافيزيقيات بعيداً لتفسح المجال أمام ظهور الإنسان، فالحقيقة هي ما يستطيعه الإنسان وما يمكن أنْ تكون في متناوله، وما عدا ذلك فهو ميت، أو ينبغي أنْ يعدَّ ميتاً، وهذا المفهوم يعني صياغة جديدة للمذهب الإنساني، الذي تأسست عليه الحضارة الأوروبيَّة، منذ نشأتها في عصر النهضة))، واعتمدت التفكيكيَّة في بناء أسسها على مرتكزات ثلاثة (الثورة على العقل، ونقد سلطة الحضور، وأخيراً الثورة على البنيويَّة)، فالفكر الفلسفي عند دريدا يعبر عن أفقٍ فلسفي جديد، ينأى عن انغلاق الذات، وسجن النسق، ويعمل على خلخلة ميتافيزيقيا الحضور، واجتثاث بُناها، ثم اجترح «ستراتيجية التفكيك»، والغاية منها تقويض كل التراث الفلسفي والفكري الغربي، ليس ((فقط من سقراط حتى هيغل، كما فعل ملهمه فريدريك نيتشه، أو من أفلاطون حتى نيتشه، كما فعل مجايله هايدغر، بل من فلسفة الإغريق لما قبل سقراط الى آخر فيلسوف كبير ومعاصر هو هايدغر نفسه)) ثم إعادة بنائه من جديد بمنأى عن كل تصور ميتافيزيقي ينسب الحقيقة والمعنى الى العقل، و(يمنح الأسبقية للكلام والصوت، ويجعل من الكتابة مجرد نسخة للأصل المنطوق).
يقول رولان بارت: «في الحقيقة إنني أعتقد أنَّ العدميَّة هي الفلسفة الوحيدة الممكنة في وضعنا الحالي.. إننا لا يجب أنْ ننسى أنَّ الفيلسوف الذي مشى بالعدميَّة إلى حدودها القصوى هو نيتشه»، ويضيف في الحوار نفسه عما يجمعه بدريدا: «بالإضافة إلى كل الأشياء التي أدين بها إلى دريدا، هنالك شيء يجمعنا إنْ سمح لي أنْ أقول ذلك: إنه الشعور بالمشاركة أو الرغبة في المشاركة في مرحلة من التاريخ سماها نيتشه بالعدميَّة».
غير أنَّ الجانب العدمي في فكر نيتشه هو الذي جذب دريدا إليه. وإذا كان دريدا يتحدث عن تأثير كل من هيدجر وهوسرل ونيتشه وفرويد عليه، فـ (تأثير نيتشه بلا شك هو الأعظم).
 
موقف تشكيكي صارم
ويصف كريستوفر نوريس حجم هذا التأثير بالقول: «استبق نيتشه استراتيجية دريدا إلى الحد الذي يبدو فيه أنَّ الاثنين مرتبطان بتفاهمٍ غريب.. فقد كان نيتشه يبدو وكأنَّه يطرح مقدماً البرنامج والحيل المنتظمة للتفكيك من خلال تبني ذات الموقف التشكيكي الصارم ورفضه البقاء في أي مقامٍ آمنٍ للاستراحة في أي مفهوم أو منهج».
فقد استخدم نيتشه ذات المفردات التي استخدمها دريدا في التفكيك مثل التحطيم والتقويض، تحطيم وتقويض العقل والمنطق والحقيقة والمُثل وكل مبادئ الميتافيزيقيا مثل مفاهيم الذات والجوهر والشيء في ذاته والعلة والمعلول وغيرها.
ولهذا (عملت الميتافيزيقا ـــ بما هي حضور، وبما هي تمركز حول العقل والصوت، طوال تأريخها على الإعلاء، من شأن الكلام والصوت والحضور والتمثيل، والنظرة الى الكتابة نظرة ازدراء، حتى بات ازدراء الكتابة بحسب نيتشه شرطاً لاغنى عنه لقيام الميتافيزقا)، وتشكلها كخطابٍ ينظر الى الكتابة كأداة لنقل الكلام وترجمة الفكر، وكآلية تحصنها من النسيان والالتباس، يقول محمد أندلسي بهذا الصدد: «رفض الميتافيزيقا للكتابة يمكن أنْ يؤوَّل بكيفيتين متضافرتين، فهو من جهة يختزلها الى مجرد أداة أو وسيلة ويمنحها وظيفة ثانوية، حيث هي مجرد أداة لنقل الكلام وترجمة الفكر، ومجرد تقنية توجد في خدمة معاني النص، ليست سوى جسر يسمح بمرور المعاني وتمثيلها».
والتفكيك عند دريدا يكون حملاً في ذاته للاختلاف (الهدم والبناء)، فبقدر ما هو هدم لتأريخ الفكر، بوصفه (تمركزا حول الذات) أي حول العقل والصوت، و(تأريخا خطيا للمعنى والحقيقة)، هو كذلك بناء وإعادة رسم معالم جديدة، لفكر كوني ينأى عن كل مركز، أي عن كل ميتافيزيقا)، وأبرز دريدا أنَّ تجاوز الميتافيزقا» ميتا فيزيقا الحضور» لن يتأتى إلا بتفكيك بنيتها وثنائياتها، وقلب تراتبيتها، بإبراز أنَّ الهامش يسكن المركز، والخارج يسكن الداخل، والكتابة تقطن الكلام والصوت.
 
تأثير الفكر النيتشوي
ويمكن تحديد تأثير الفكر النيتشوي في الفلسفة التفكيكيَّة وما شكل أساساً فلسفياً قامت عليه في جانبين «أولها: عمل نيتشه على الحفر وراء الظواهر لاكتشاف المحركات الكامنة خلف الأشياء، والتي لاتظهر على السطح (جينالوجيا الأخلاق والتأريخ)، إذ ظهر من ذلك أنَّ (الغاية من الجينالوجيا هي هدم وتقويض فكرة الأصل والمركز والحقيقة وإعلان الغياب الدائم للأسس والقيم الثابتة، وتهميش معاني التطور والتقدم، فضلاً عن غايات أخرى تتحدث بكشف وتمييز الأحداث التاريخيَّة، وتنقية مسيرة الممارسات المعرفية، وفحص العلاقات بين الجسد والمعرفة والسلطة).
ولا يخلو نيتشه ودريدا والتفكيكون من الانتقادات التي وجهت إليهم، وبخاصة نيتشه (الرجل الذي رفض كل شيء) المنطقي وغير المنطقي، المعقول وغير المعقول، فكأنَّه لا يعلم ماذا يريد بالضبط، فهو ــ مثل دريدا وبارت وغيرهما ــ ممن رأى أنه صار سيد التغيير والإبداع في العالم، ثم يعود ويعترف بتنازله عن أشياء كان يراها من المقدسات، وانقلب عليها ورأى أنها غير مناسبة لأنها لم تفِ ببعض وعودها، وهناك أكثر من رأي يقول أو يرى أنَّ «نيتشه إنسان يعيش خارج التاريخ، ومحزن جداً أنْ يطرح من قبل بعض المثقفين العرب، في القرن الحادي والعشرين، استناداً الى مزاعم تفكيكيَّة بوصفه ــ نيتشه ـــ ثائراً، ثائر على ماذا؟ على أعظم وأجمل وأنبل القيم والمبادئ التي دفعت البشريَّة من أجلها الدماء والدموع؟، إنها غيبوبة تضاف الى الغيبوبات الكثيرة التي يغط فيها مثقف ما بعد الحداثة)).
 
انتقادات لاذعة
يقول جان فرانسوا دورتييه «إذا كان منهج دريدا قد لاقى ترحيبًا إيجابيًّا في بعض المجالات الفكريَّة، فإنَّه جذب أيضًا بعض الانتقادات اللاذعة» ومنها، على سبيل المثال، (نقد فوكو الذي يتهمه بالظلامية؛ ونقد بورديو أيضًا الذي يرى أنَّ نظريته لا تقوض تمامًا أسس الخطاب الفلسفي، وتتوافق مع المنطق الأكاديمي أو حتى مع أنصار التقليد الفلسفي الذين يؤكدون أنَّ المرء يستطيع تمامًا التحدث بشكل نقدي من دون إجراء تشريح منهجي لآرائه).
السؤال الأعظم هل جاءت التفكيكيَّة تقليداً أعمى لنزوات نيتشه وآرائه الغرائبيَّة العجائبيَّة، لقد طرح نيتشه مجموعة من الأفكار المتضادة المتفقة في آن، ففي فكرة (العود الأبدي) و(الخلود)، يزاوج ويوائم بين (الثابت) و(المتحول)، ويعطي للمتحول صبغة الثبات، ويرى أنَّ أية مدنيَّة لا تؤمن بالخلود في هذا العالم الدنيوي، إذا ركزت على عالمٍ آخر بعد الموت وترى فيه خلوداً، فهي مدنية غير ثابتة وآيلة الى الزوال، لذلك يرى أنْ نتمسك بهذا العالم الذي نعيشه ونحقق به ومن خلاله الخلود، وعلى الرغم من هذه الانتقادات، إلا أنَّ فكر نيتشه وسلطة دريدا ستبقيان في دائرة الجدل بين السلب والإيجاب ولا تخرجان منها لحراجتها وقدرتها على صناعة الأفكار المتضادة في النقاش.