رعد أطياف
كل شيء عرضة للظهور واللا تحجّب؛ يكفي أن نتيقّظ له فحينئذِ يمنحنا حقيقته. وبدلاً من إظهاره من أجل الإمساك به نسلّط عليه وابلاً من التنظيرات والتجريدات والأقيسة المنطقية.
لا أتكلم هنا عن تاريخ الأفكار، رغم أنها ترتبط بنفس الموضوع، ذلك أن الأفكار عادةَ ما يجري تقطيعها وتجزئتها بالتصورات المنطقية والأحكام المسبقة، فتغدو الأفكار ترديداً لما في الذهن؛ مطابقة الأذهان لما في الأعيان.
الموضوع هنا من زاوية محددة، أعني به الرذائل؛ إنها تريد الظهور لكي ننبته لها ونفهمها، بوصفها انحرافاً عن الطبيعة الأساسية؛ تلك الطبيعة التي تميّز بين السعادة والتعاسة بقوة الشاهد الداخلي.
لكن، ويا للحسرة، بدلاً من الفهم سيكون التبرير هو سيد الموقف. وستغدو الرذائل، بحكم طبيعتها الإحالية، تؤثر أحداهما بالأخرى، ويتحول الذهن إلى مرجلٍ للسموم النفسية.
ومن ثمّة يتساءل المرء: لماذا أعاني؟
على الأغلب أنه يشعر لماذا يعاني ويعرف الأسباب جيداً، لكن هيمنة التبرير لم تترك لليقظة مكاناً فسيحاً للفهم.
وفي حينها يتلمّس التبريرات واحدةً تلو الأخرى ليغطي على هذا الدفق المؤلم الذي تحدثه الرذائل. الكبرياء، والغضب، والحسد، والتغابي، والجهل، ستخضع هذه الرذائل لحراسة شديدة من قبل شيطان التبرير(الأنا) لكي لا يفسد الجو التبريري العزيز عليها.
لكن الخبر التعيس هنا، هو لا جدوى من كل هذه اللغة التبريرية المُنَمَّقَة، ذلك أن القبح لا يستره أي حجاب. حتى لو استطاع القبح أن يتسلل بفعل التبرير إلى أذهاننا المغفّلة، إلّا أنه يبقى محافظاً على قبحه ولا يتمتع بأي جاذبية ويحمل فضيحته في أعماقه.
نحاول، على سبيل المثال، في كثير من الاحيان أن نسخّر الكتابة المثالية كحجاب واقٍ لرذائلنا الأخلاقية، لكن سرعان ما تسقط طاقية الإخفاء و”تعرفونهم من فلتات ألسنتهم”.
تحاول الرذائل التخفّي جهد الإمكان؛ مرة عن طريق الكتابة، وأخرى عن طريق الكلام، ثمّ يأتي الفعل ليرفع عنها غطائها الأسود، فتنبعث منها روائح وذبذبات تربك النفوس الشفافة.
عدوى الرذيلة لا يمكنها أن تصيب المحصنين بطيبة القلب، بقدر ما تصيب أصحابها بمقتل. الكذّاب، والمنافق، والحسود، والمتكبّر، والأنانيّ، هؤلاء كلّهم يعانون، ويحاولون الهروب من شاهدهم الداخلي عبر الحشد المستمر من التبريرات المُنَمّقة.
غير أن التبرير، هو أيضاً، لا يخفف من معانتاهم، بل سيزيد الأمور سوءً، ويفاقم درجات المعاناة.
لذا لا يمكن للرذائلَ أن تتستر بحجابٍ إلا بترياقٍ مضادٍ؛ وهو التصالح مع الذات، فهذا الأخير خير مضادٍ لكثيرٍ من أشكال المعاناة النفسية.