من الصعب التصور أن الدول الغربية تريد محاصرة ايران، حتی لا تذهب أموالها لحلفائها الذين يعملون علی تقويض الامن والاستقرار، ويعملون علی زعزعة أحلام حلفاء الدول الغربية في المنطقة. كما من الصعب التصور أن حلفاء ايران سواء في لبنان، سوريا، العراق، فلسطين واليمن وضعوا الكف علی الكف انتظارا للاتفاق النووي، الذي سيوفر لهم الأموال اللازمة لتنفيذ مشاريعهم في المقاومة والممانعة.
ومن الصعب التصور ثالثا أن ايران تنتظر فتح آلية التبادل المصرفي "سويفت"، من أجل إرسالها الأموال لحلفائها عبر هذه المنصة المالية.
الدول الغربية وتحديدا الولايات المتحدة تعرف قبل غيرها أن هذه التصورات فيها من السذاجة بالقدر، الذي لايمكن الاستناد عليها لأن ايران تتعامل مع حلفائها بالاتفاق النووي وبغيره.. مع الاسويفت وبغيره.
تعاملت معهم قبل الاتفاق النووي.. ومعه وما بعده ولا يخافون لومة لائم؛ كما أنها قالتها بوضوح وعلی لسان مرشدها الأعلی أن صداقة إيران مع حلفائها في المنطقة لا ترتبط بمفاوضاتها مع الدول الغربية شأنها شأن منظومتها الصاروخية.
جوهر النزاع الايراني مع الدول الغربية وتحديدا مع الولايات المتحدة يتعلق بـ "أمن اسرائيل" والرئة الأميركية، التي تتنفس الهواء الإسرائيلي في منطقة الشرق
الاوسط.
واستنادا لهذا الجوهر فإن المفاوضات، التي دخلتها ايران في نيسان/ ابريل من العام الماضي بعد الرغبة الأميركية في العودة لطاولة 5+1 لم تصل لنتيجة مرضية للجانبين.
وهنا يكمن سؤال؛ اذا كانت الأمور والحسابات الايرانية تسير بهذا الاتجاه، لماذا وقعت علی "خطة العمل الشاملة المشتركة"، التي سميت "الاتفاق النووي" مع الدول الكبری؟
وسؤال ثانٍ يرتبط بالسؤال الاول؛ هل أن المشهد الايراني عام 2015 كان موحدا حيال "خطة العمل الشاملة المشتركة" مع الدول الغربية؟ أم أن الوسط السياسي كان منقسما حيال ما تمَّ التوصل إليه في هذه الخطة؟.
في حقيقة الأمر أن المشهد الإيراني لم يكن موحدا حيال المفاوضات مع الغرب، وحيال ما تمَّ التوصل إليه لأن هذا المشهد كان ولا يزال علی طرفي نقيض من "التفكير"، مع آلية التعاطي مع البرنامج النووي واهدافه وآلية توظيفه بما يحقق المصالح الوطنية القومية الايرانية.
وبعيدا عن المواقف الشاذة؛ انقسمت المواقف الجادة في ايران حيال الاتفاق النووي وبرنامج ايران النووي إلى مسارين.
المسار الاول؛ الذي التزم به الرئيس الايراني السابق حسن روحاني، وقاده وزير الخارجية محمد جواد ظريف وانضم إليهم علی لاريجاني رئيس مجلس الشوری البرلمان وساعدهم علی تنفيذه مدير هيئة الطاقة النووية الايرانية علي اكبر صالحي، بمباركة واضحة وداعمة من الراحل هاشمي رفسنجاني.
وهذا المسار الذي أدی إلى الاتفاق النووي عام 2015؛ استند علی قاعدة ضرورة الحوار مع الدول الغربية علی أساس رابح رابح؛ والتعاون والتنسيق في ما يخص القضايا الإقليمية والدولية من أجل تثبيت المصالح
الايرانية.
خصوصا في ظل وجود رسالة من الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما أعربت عن الرغبة بفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الجانبين.
المسار الثاني الذي يقوده التيار المتشدد حيال العلاقة مع الدول الغربية، الذي التزم به الرئيس السابق محمود احمدي نجاد وسعيد جليلي كبير المفاوضين آنذاك وعلی باقري كبير المفاوضين حاليا، وعديد الشخصيات الإيرانية الاصولية في مراكز القرار.
هذا المسار كان ولا يزال يعتقد أن العلاقة مع الدول الغربية يجب ان تستند الی مصادر القوة.
وان أي تنازل سوف يعطي المبرر لهذه الدول توجيه ضرباتها في جميع المجالات، لأنها لا تريد أقل من تفكيك البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي، خدمة لـ "الأمن الإسرائيلي"، واذا ما اقتنعوا بإعطاء مستوی معين من "الدورة الكاملة للتقنية النووية"، فإنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا المسار مقتنع أيضا أن توظيف البرنامج النووي يجب ان يكون "قوة ردع" أمام أي هجوم او اعتداء تفكر به جهات معادية لايران.
والنقطة الأخيرة مدعاة للتأمل لأنها مهمة جدا.
وأمام هذه الحالة، فالجميع كان يدرك ان الاتفاق النووي هو عبارة عن "خطة عمل مشتركة شاملة"، بين ايران والدول الغربية وعلی إيران الالتزام بما شملته هذه الخطة، التي تتعدی البرنامج النووي.
لكن عدم التزام الجانب الأميركي بروح هذه الخطة في جانبها الامني او الاقتصادي خلال المدة من يوليو/ تموز 2015 تاريخ التوصل لهذه الخطة وحتی تاريخ نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 تاريخ الانتخابات الاميركية، التي فاز بها الرئيس دونالد ترامب جعل هذه الخطة تسير في مسار آخر، حتی وصلت للعام 2018 تاريخ انسحاب الرئيس ترامب من الخطة او الاتفاق النووي.
الآن تعتقد شريحة واسعة من الجناح المتشدد أن البقاء في الاتفاق النووي وفي معاهدة حظر الانتشار النووي عملية مرهقة وبالغة التكلفة، بسبب عدم تمكنها من الايفاء بمصالح ايران الستراتيجية؛ اضافة إلى الاعتقاد أن التوصل للسلاح النووي من شانه إيجاد حالة من "توازن الرعب" مع اسرائيل، وبذلك تستطيع ايران تأمين أمنها الوطني، بعيدا عن التهديدات المحتملة.
هذا الاعتقاد وإن كان لم ينضج بعد وغير متبلور عند جميع الأوساط، ليكون علی طاولة المناقشة والصيرورة، إلا أنه غير بعيد عن أذهان عديد الشخصيات في مصادر القرار، خصوصا في ظل عدم توصل مفاوضات فيينا لنتيجة.
نضوج هذا التصور وتبلوره يعتمد إلى حد بعيد علی الضغوط الأميركية والغربية الموجهة لإيران؛ والعكس سيكون صحيحا اذا ما قررت الولايات المتحدة التعاطي إيجابيا مع المقترحات الايرانية، وترك التنفس بالرئة الاسرائيلية من أجل عدم دفع ايران إلى منصة نووية مقلقة لجميع الأطراف المعنية بالملف الايراني.