اللعب العميق.. قريباً من السياسة

آراء 2022/06/20
...

 د. يحيى حسين زامل
 لا بأس أن نقتبس هذا العنوان -اللعب العميق- من «كليفورد جيرتز» رائد الوصف المكثف، والتأويلية الرمزية في الأنثروبولوجيا، لتفسير الوضع السياسي الحاضر بوصفه لعباً عميقاً بين قوى متصارعة، يأخذ مساحة واسعة من الوطن العراقي، وله امتدادات دينية وتاريخية وشعبية وكاريزمية. إذ أولى – جيرتز- عناية خاصة بدراسة الرموز في الثقافة، لإيمانه بأنّ هذه الرموز تضفي معنى ونظاماً على حياة الإنسان. 
 
إنَّ نظرية «اللعبة العميق» التي استخلصها «جيرتز» من دراسته عن «صراع الديّكة» في مجتمع (بالي) الاندونيسي، لتفسير السبب وراء الأفعال الإنسانية، تقترب كثيراً من وضعنا المعاصر ونحن نشهد صراعاً سياسياً ولعباً بين الأطراف السياسية، حيث الكل متخذ فيه وضع التهيؤ والاستعداد والانقضاض، للحصول على المشهد الملكي، المتحكم في دفة الأمور، تدفعه مراكز وأدوار قديمة واسطورية سابقة وحديثة معاصرة، للتقدم نحو مكانة يرجوها، أو يعدها المكان الأحق، ثيولوجياً 
وديموقراطياً.
إن قضية الرهان في هذا اللعب العميق يتخذ رمزاً وتأويلاً عميق الجذور، وقضية التقدم والتأخر والانسحاب، إن هي إلا تكتيك يحمل بعداً اجتماعياً وثقافياً يكاد يختفي تحت الرموز، وقضية الفوز في هذا اللعب له انعكاس في الخطاب والكلام والإيماءات في مسرح الاحداث، التي يعدها «ايرفنغ جوفمان»، تمسرح الحياة في أدوارها المتعددة، على الصعيد 
الاجتماعي.
كما أن المتتبع للأحداث يرى صراعاً رمزياً ومعقداً في الوقت نفسه، تتطلسم تحته العديد من الرموز المتوافقة فلكياً وزمانياً، مع أوفاق يخطها عارفون يتوقون للطوالع السعيدة، الطوالع التي تمنح السلطة المطلقة، السلطة المنبثقة من الحق الإلهي الذي يتجسد في الإنسان بصفته الخليفة، وظل الله في الأرض، هكذا هي الصورة المُتخيلة في حلبة الصراع أو الصدام، أو في الإشارات التي تصدر هنا وهناك من دون شعور منهم.
 ورمزية «الديك» الذي استعمله «جيرتز» في صراع الحياة، هو الأداة للحصول على جوهرانية اللعب، المعنى الجواني، الذي يختفي تحت مخالبه وعينيه وريشه الملون الزاهي، ولا ننسى التشابه العميق بين الجوهرين، حيث الفحولة والزهو وكسر العظم، والهيمنة على المشهد كله، الفوز هو التتويج النهائي لهذه اللعبة التي يسقط فيها كثيرون، ويغيب فيها كثيرون، ويكون فيها الفوز المعنوي أكبر من الفوز المادي.
كما أن ممارسة اللعب العميق في ساحة مكشوفة الأطراف يتطلب بعض الحذر من اللاعبين، إلا أن اللاعبين يظهرون بكل قيافتهم، مع بيانات التبرير التي تمنحهم الحصانة، فضلاً عن العشق الذي يمارس دوراً من التعمية على الأبصار، ليخلق نوعاً من التوازن في الوظيفانية المعاصرة، التي ما غاب عنها عنصراً ما، حتى وازن عنصر جديد ذلك الخلل، بوصفه نسقاً بنائياً ووظيفياً متكاملاً.
 إن نظريات الألعاب التي تأسست على يد «جون فون نويمان» و»أوسكار مورغن شتيرن»، هي من الوسائل التحليلية والرياضية لحالات تضارب المصالح للوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة، والحصول على النتائج المرغوبة. 
وهي تنطبق على الرياضة والسياسة، وغالباً ما كانت الخطط العسكرية في الحرب العالمية الثانية تصمم وفقها، وفي لعبة «الشِّطْرَنـْج»، وهي لعبة ستراتيجية: يُضّحي الملك بالجنود والبيادق والأفيال، حتى أن «الوزير» الذي هو أقوى القطع، ينال مصيره المحتوم في هذه اللعبة الملكية، لكن لفظة (كش مات) هي نهاية اللعبة، أو قل نهاية الحياة.
 إن من حسنات العلوم أنها تتنبأ بسلوك الإنسان وتفسره، وتعطينا صورة واضحة عما يجري في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، وبالتالي فهي – العلوم- تكشف عما يجري وراء الكواليس، وما تخفيه اقواله واشاراته وايماءاته، أنه اللعب العميق جداً في مصير الإنسان على الأرض